الحيوان

لم يكن كابتن سيد السبع، اقدم أعضاء السيرك، حاضرا في الإجتماع الطارىء الذي قام به المدير. ورغم أن الكابتن هو مدرب الأسد غضنفر الذي تسبب مرضه المفاجيء بأزمة حقيقية لكل العاملين بالسيرك، إلا إنه كان آخر العالمين بأمر المدير لحل الأزمة. مرض غضنفر المفاجىء حل عليه قبل يوم واحد من بدىء العرض الأهم للسيرك في آخر عدد من السنوات. فبعد أن فقد السيرك المتنقل رونقه وسمعته، سواء بسبب تكرار العروض القليلة أصلا، أو بسبب استمرار نقص العارضين على مر الأيام واعتذارهم لأي سبب كان، خاصة لكبر السن، أو بدون أسباب أصلا لمجرد أنه صار موضة اقترنت بزمن فات؛ جائت فرصة محاولة احيائه من جديد بعد أن استقبل المدير هاتفا يعلمه أن قناة تليفزيونية مغمورة تود أن تنتج فيلما وثائقيا عن السيرك وتاريخه الذي لم يعش منه إلا غضنفر وكابتن سيد. بالإضافة إلى عدد قليل من عارضي الأكروبات الصغيرين والمتناوبين بخبراتهم القليلة على السيرك وأهله. وكان مهم جدا أن تصور القناة أحد العروض لا سيما وأن غضنفر سيكون موجودا وهو الأسد الذي انتزع بزئيره ساعات من التصفيق أيام العز. لم يود المدير تأجيل التصوير ولا العرض، خشى ألا تأتي ال

وداع كغيره


كانت الليلة الأخيرة قبل سفر طويل، كنا نعلم ذلك، أنا وأنت. حاولت أن ألقاك فيها فلم تنجح خططتنا الصغيرة عكس المعتاد. وفي صباح سفرك طالت نومتي على غير عادة أيضاً، فلم ألحق بك لأودعك في المطار. كانت المكالمة الأخير بيننا ونحن على أرض نفس البلد، كانت في الواقع، وداع ككل الوداعات التي لم أودعها في حياتي.

أذكر قديماً، ولو كان للقديم أول فتلك الذكرى هي أوله، عندما كنت صغيراً يحبو، قبل أن أرتبط بالمنزل أو حتى ترتسم هيئته في ذهني، انتقلت أسرتي لآخر، فلم أعرف ما هو المنزل ولا هو الوداع لأودعه. قضيت أعواما في المنزل الجديد، في المنطقة الجديدة، كبرت بين جدرانه وجدرانه فقط، لأنني كنت أصغر أبناء الجيران، فلم يكن لي أصدقاء أقضي معهم وقتا نلعب الكرة في الشارع أو نتسابق بالعجل أو نحارب بعضنا بمسدسات الخرز؛ عكس أخي الذي كان يعود كل ليلة متسخا بوسخ الشارع ومصاب بإصابة جديدة. إما إصابة لتدخل عنيف في مباراة كرة، ووسخ طين بعدما تسكب الحاجة العجوز عليه وعلى أصدقائه الماء للتوقف عن اللعب تحت منزلها. إما إصابة إثر سقطة من على العجلة، ووسخ الشحم الذي غطى سيرها الحديدي يطبع على يديه وملابسه السواد، بعدما يفكه ويقطّر عليه الزيت ويركبه مجددا. إما إصابة في الوجه أو في العين إثر كرة بلاستيكية صغيرة خرجت من مسدس أحد أبناء الجيران فأصابته، فسقط على الأرض متألماً وقام متوعداً لينتقم، قبل أن يتدخل أحد المارة الكبار ويسلب من الأولاد ألعابهم المؤذية. حينها وددت التوسخ، وددت اللعب والجروح، حينها كان عندي فضول يزيد كل يوم نحو ذلك الألم وما كانت تثمر محاولات أمي لتخويفي بالإشارة لأخي وحاله إلا مزيداً من الفضول نحو الشارع.

في يوم وأنا عائد من صلاة الجمعة مع والدي، رأيت سيارة نقل محملة بأثاث لا يبدو جديداً، وسمعت بين أبي وأمي حديثا عن جيراناً جدداً يبدون طيبون وأولاد حلال. وفي ذات الليلة وأنا عائد أنا ووالدي من صلاة المغرب، وقف الرجل أمام باب المنزل المفتوح، رحب بالجار الجديد وعرض عليه المساعدة والتفضل لتناول العشاء معنا، حينها رأيت صبياً في نفس عمري تقريباً وقتها، خرج إلينا منحنيا على والده وابتسم، طلب منه والده مصافحة عمو وابنه، فضرب الصبي بكفه بقوة على يد أبي وعلى يدي المستحية. حسدته على ثقته حينها وعلى ابتسامةٍ لم تكن تخرج مني إلا خجلا، وعلى قوة سلامه الذي لم يحدث أن صافحت –إن صافحت- أحدا بثقة مماثلة أبدا رغم أن عمري حينها كان تقريباً 11 عاماً، 11 عاماً ولم ألعب في الشارع قط. لم أكن أريد أن أنزل الشارع لأصلي، أردت أن أنزل لألعب وأتسخ.

زارنا الجيران وزرناهم، تعرفت على ابنهم وتردد كل منا على منزل الآخر، لعبنا كل الألعاب وبكل الألعاب التي امتلكها أو ابتكرها أي منا، ولعبتنا المفضلة كانت الأتاري، التي نُسيت تماما فور ما اقتنى هو جهاز بلايستيشن 1. لعبنا كل شيء إلا ألعاب الشارع مع الإخوة الكبار، كانت تمنعه أمه رغم قوة شخصيته كما رأيتها حينها كما ظلت أمي تمنتعني. لم نكن نتحدث عن أي شيء محدد ككل الأطفال، لكنني كنت أتحدث معه أكثر من المعتاد بيني وبين الآخرين، زادت الأحاديث، ولما زادت انقطعت. فبعد صلاة جمعة لم ألحظ وجود الولد أو والده بين المصلين، وبعدما ذهبنا للسوق أنا ووالدي لشراء طلبات المنزل الاسبوعية، ونحن صاعدين توقفت أمام منزل الصبي لأسأله لماذا لم يأت، ثم لنبدأ يومنا في منزله أو منزلي، كنت أفضل منزله منذ أن ابتاع البلايستيشن. حينها أخبرني أبي أن الجيران الجدد قد سافروا إلى الأسكندرية لقضاء اسبوع صيفي، لم أحزن، فاسبوع لم يكن بالوقت الطويل عليّ حتى وأنا طفل، كلها بضعة أيام وأراه مجددا. لكنها لم تكن بضعة أيام، في نفس اليوم، أخبرنا أبي أنه قرر أن ننتقل لمنزل آخر بمنطفة أخرى رآها أرقى، كان قد استأجر المنزل فعلا، ولا أذكر إن كنت قد سمعته هو وأمي يتبادلان الحديث عن تلك الخطوة. وأننا سنتحرك يوم الاثنين المقبل، أي قبل أن يأتي الصبي. لم يخبرني أبي قبلاً، لم يخبرني قبل أن يسافر الصبي فأحظي بفرصة لأودعه، ذهبنا إلى المنزل الجديد ولم أر الفتى أو أهله أو المنطقة كلها منذ ذلك الحين.. لم ننس أي شيء للذهاب للإتيان به، لم ننس أي شيء يستدعي عودتنا ولو مرة، إلا الصبي.. ولم نعد.
***

أذكر قديماً، ليس كقدم أيامنا في المنزل الذي لا أذكره، ولا في المبنى الذي جاورنا فيه جيراننا الجدد. أذكر أنني لم أحظ بأصدقاء في المدرسة قبل التحاقي بالمرحلة الإعدادية في المدرسة الجديدة القريبة من المنزل الجديد المستأجر في المنطقة الجديدة. قضيت مع ذات الصبية ومع ذات الفتيات ثلاثة أعوام دراسية وفي العام الثالث تحديدا خرج لي بينهم أصدقاء، بعد عام أول قضيته مرفوضا من أبناء المدرسة القدامى، وعام ثاني مسموح لي بالوجود بينهم بعدما اختفت مضايقات العام الأول. جلسنا طيلة السنوات نفس الجلسات وبنفس الترتيب، نفس الزملاء، ونفس الفصل، نفس مروحة السقف المُصفَرة، ونفس صورة الرئيس والعلم فوق نفس الصنبورة السوداء التي ضرب الزمن فيها ثقوب صغيرة. ما كان يختلف إلا المناهج التي كان يحاضرها نفس المدرسون، ولم يجدّ علينا في العام الثالث إلا الشوارب الخفيفة والصوت المهتز للصبيان، والأثداء التي بدأت تتكور أو أتمت تكويرها والأصوات الأنثوية للفتيات، والشعر الزائد والحواجب المثقلة في أذرع وأوجه كلانا، الذي ميز الفتيات أكثر عنا كلما تعاملن معه. أذكر أنني كنت أحب المدرسة، أو صحبة المدرسة، كنت أحب وقفة الكشك بعدها ومباريات البلايستيشن في المقهى المجاور، كنت أحب المزاح البذيء بين الصبيان وبين المدرسين الأصغر سناً من هؤلاء العجائز، كنت أحب مشاهدة مضايقة بعض الصبيان لبعض الفتيات رغم عدم مشاركتي، كنت أحب ردود أفعال الفتيات إن كانت ابتسامة أو سب أو ضحكات عالية كنّ يحاولن كتمها وتبديل الوجوه بأخرى تحاول الصياح والشجار، كنّ دائما يفشلنّ. كنت أعود إلى المنزل مفكراً في الغد الذي سأرى فيه الرفقاء، لم يكن يجمعنا مكان إلا المدرسة، فكان النادي الذي يضم معظمهم كأعضاء، كانت قيمة اشتراكه أكبر من أن يتحملها أبي، وكان النادي هو الفسحة الوحيدة في ذلك السن. أحببتهم، وأحببت تلك الفتاة.

كانت ساكنة معظم الوقت، كانت لا تشاركنا مزاحنا ولا وقفاتنا عند الكشك، وفي الفصل كانت تجلس بعيدة عن الجميع في مقعد لا يضم إلا هي، فالعدد لم يسمح لها بمجاورة أخريات ولم يكتمل لتجاورها أخريات. بدت وكأنها وحيدة لا تنتمى بين هؤلاء الفتيات، وكأن جمالها وضعها في مرتبتة أعلى لتجلس وحدها. لم أكن أعرف إلا اسمها، ولم أعرفه إلا بعد فترة من ملاحظتي لوجودها في السنة الثالثة. كنت ودون أن أقصد أنتبه فور ما ينادي أي من المدرسين عليها لأي سبب، لإعلان الدرجات، لمراجعة أسماء الحضور، أو للم كراسات الواجب المنزلي الذي لم يكن يقوم به إلا قليل وكانت هي منهم. كنت أنتبه وأنظر إليها منتظرا سماع صوتها، وددت أن أعرف كيف يكون، ولم أعرف إلا حينما ذهبت عمداً محاولاً التحدث معها ومرحباً بها كطالبة جديدة بعد أن انتهى النصف الأول من عام!. رحبت بها في مدرسة لم تكن مدرستي وكأنني ولدت في ذاك المكان. كانت خجولة، ذكرتني بي عندما كنت طفلاً، وعندما قدمت للمدرسة جديداً عليها. كانت تجيب السؤال بأقصر الإجابات، وتبتسم دائما، ثم تذهب فجأة لأي سبب.. تختفي وتطير ورائها تنورتها الزرقاء التي كانت أطول وأوسع من تنورات باقي الفتيات. لم أحظ بفرصة أكبر لمعرفة عنها أكثر مما هو معروف للكل، وهو تقريباً اللا شيء. فبعد انتهاء العام، وقرب بداية العام الجديد، فوجئت أن والدي أتم أوراقي لانتقالي لمدرسة أخرى حكومية، لم ير أهمية وجودي في مدرسة خاصة تكبده آلاف بجانب الآلاف التي سيدفعها لقاء الدروس الخصوصية، كان، ككثير من أولياء الأمور، لا ير أهمية لدفع مصاريف مدرسة رأى أنني لن أذهب إليها. لكنني كنت سأذهب، هو لم يعلم لأنه لم يسأل، لم يفهم حاجتي للوجود بين طلبة تلك المدرسة اللذين أخيرا عرفت كيف أن أخرج بأصدقاء بينهم، لم يفهم إرادتي لرؤيتها والوقوف بجانبها أي ساعة في أي يوم، لم يعرف أنني وددت التقرب منها أكثر وكان ذلك هو هدفي للعام الجديد.. لم يفهم شعور ملامسة تنورتها الكبيرة لساقي وهي تلتف لتبتعد. ذهبت المدرسة والزملاء والكشك والفتاة، أو ذهبت أنا عنهم، ولما عدت مرة زائراً بدوا مكتملين من غيري، ولم تظهر الفتاة التي كانت –حينما زاملتها- تختفي فور انتهاء الحصص وتهرع إلى سيارة أخيها المنتظر. لم أرها ولم أجد لنفسي مكاناً بينهم، فلم أذهب بعدها ولم أودع حينها عمداً كما لم أودع قبلها، ولكن لغياب الفرصة وعدم معرفتي بالرحيل قبلاً.
***

أذكر قديماً، قديماً يبدو إليّ اليوم أقرب من أي قريب، كنت ابن ال16 سنة حينما ذهب أخي للتحمم صباح ليلة فرحه في احدى الحمامات الشعبية التي فضلها على حمام الفندق. ذهب واصطحبه اثنين من أصدقائه وابن خالتي ابن عمره وصديقه منذ أن ولدا في نفس الشهر من نفس السنة. لم أذهب معه، لم يدعوني كما جرى المعتاد ولم أكن لأذهب لو كنت دعيت ولو ذهبت كنت لأظل صامتا.. لم أعرفه منذ أن عرفت بوجوده إلى يوم اختفائه. ذهب وذهب معه رفقائه في الصباح الباكر، على أن يعودوا من الحمام إلى الفندق حيث غرفته هو وأصدقائه وغرفة العروس وصديقاتها. كان كل شيء وكل أحد في انتظاره، بدلته السوداء اللامعة وضعت له في دولاب الغرفة والبخار يخرج منها ومن قميصها الأبيض. حذائه وساعته وحزامه كانوا لامعين كالباللور. زوجته المستقبلية كانت أوشكت على الانتهاء من ارتداء فستانها بعد اليوم الطويل والمجهود العظيم في وضع المساحيق وتصفيف الشعر وضبط الطرحة والفستان. المصور والعائلة والأصدقاء المقربين والمأذون واستقبال الفندق الذي استعد لتقديم هدية للعرويسن، والبوفيه والفرقة الشعبية والأصدقاء الأقل قربا والعائلة الغير قريبة أصلا. كل هؤلاء انتظروا.. وانتظروا. حل الليل، تأخر الوقت، بكت الأم والعروس وصرخت أم العروس، همهم الجميع واستغفر المأذون، توتر الأب والأب، داروا ولفّوا حول انفسهم ولم تكف هواتفهم عن الاتصال. انتصف الليل بعد أن رحلت الفرقة الشعبية واستأذن المأذون وجف طعام البوفيه. رحل عدد لا بأس به من المعازيم. ولم تكف الأمهات عن العويل ولا العروس، ولم يتوقف دوران الرجلين حولنا بهاتفيهما، إلا عندما دخل علينا صديقيه اللذين كانا معه. دخلا مرعوبين، وارتعبا أكثر لرؤية حال المنتظرين. توجه من عرفهما نحوهما، لم ينطقا بكلمة إلا عندما اجتمعا بأبي وحده. صاح أبي من بعيد وهو بينهما "يعني إيه؟ اختفى؟" فارتعد من سمع صيحته أكثر. خرج مسرعاً فتبعه الجميع القليل المتبقي، فدار وصاح بالكل مشيراً باصبعه أن يدخلوا ولا يخرج ورائه أحد. سحبني أنا وواحد ممن كانا مع أخي. وضعني في السيارة دون ان ينطق وقفز الشاب الآخر على المقعد الخلفي. طار إلى قسم الشرطة. حررنا محضراً بالاختفاء وأدلينا بالأوصاف، وحكي الصديق شهادته فكانت أن أخي قد خرج من الحمام للتدخين والاتصال بالعروس، تأخر كثيراً، وخرج الشاهد ومن كان معه للبحث عن أخي ذو الباشكير الأبيض ولا شيء غيره. استمر البحث وطال. عاد صديقيه اللذين عادا إلينا وبقى من بقى هناك للاستمرار في البحث. انضمت الشرطة ، وأهل المنطقة وعمال الحمام وزبائنه حتى وان انتهت ساعات عمله. وأهل السوق من بائعين ومبتاعين، أصحاب المحال وأهل المنطقة ورواد المقاهي وقهوجيتها. كلهم انطلقوا من منتصف الليل حتى مطلع الفجر. انطلقوا وانتشروا صائحين وسائلين، وكل مسؤول كان ينضم إلى الفوج فيسأل فينضم مسؤول جديد. ولا شيء، لا أثر لأبو باشكير كما أطلق عليه الأطفال والغلابة من المتطوعين. ذهب الجميع من الفندق الذي أبلغنا  مديره بكل حرج أن وجودنا في منطقة الاستقبال غير مرغوب. خلعت العروس ما كان عليها بعد أن خربت الدموع ألوان وجهها وخلتطها. استمر البحث طويلاً إلى أن ذهب كلٌ إلى مضجعه أو إلى مصدر رزقه، حتى الشرطة ذهبت ولم يبق إلا أنا و أبي وابن خالتي، حتى أصدقاء أخي ذهبوا.

اختفى أبو باشكير في القاهرة القديمة، حيث اختفى عاشور الناجي والحاكم بأمر الله. اختفى عاشور، فظن أهله وأتباعه أنه الوليّ الذي ترفع إلى السماء مع الملائكة، وانتظرته أجيال وأجيال إلى أن يعود ويحقق العدل. واختفى الحاكم، فظُن أنه المهدي المنتظر الذي سيعود وظُن أنه الإله الصاعد إلى حيث ينمتي. واختفى ابو باشكير، ولكن ماذا ظُن به؟ ماذا يُظن به إن ظَن به ظان؟. اختفى، جف البخار المتصاعد من قميصه وبدلته التي ذهبت ألوانهما كما ذهب صاحبهما. تزوجت العروس بآخر لا يختفي. غرفته استأجرها وقضى بها ليالٍ رجالٍ وسيداتٍ لا يختفون. عقد المأذون بعد ليلة القران المشؤوم ألف قران، وحضر المعازيم مائة فرح. انتهى الأمر للجميع إلا لنا نحن، فلسنوات، ومع كل دقة باب وكل رنة هاتف تمنيت أمي أن يكون ابنها العائد. وأنا تمنيت أن يكون أخي الذي لم أعرفه، ولم أودعه، وأين يكون الوداع قبل اختفاء غير منطقي يشبه اختفاء الاساطير؟
***

أذكر قديماً، بعد المنزل القديم والجيد والأجدد، والمدرسة والكشك والفتاة، والفرح وأخي والفندق، والمدرسة التي تلت المدرسة في المرحلة الثانوية التي لم أذهب إليها فعلاً رافضاً. أذكر بعد المرحلة الثانوية التي قضيت معظمها بين المنزل مذاكراً وبين الدروس منصتاً، بين زملاء جدد كانوا أبناء مدارس واحدة فكانوا أصدقاء قبل الدروس وبعدها، وأنا لم أجد إلا قليلين ممن زاملتهم في الإعدادية بعد أن نسوني، ولم أجد الفتاة قط كما لم أجد أخي. أذكر الجامعة، وما أكبر التغيير الذي تحدثه الجامعة في نفس الشاب. أذكر أنني لم أصبح ذلك الصبي الصامت الخجول، ولم أكن ذلك الانطوائي المنسي. أذكر المحاضرات والزحام والأنشطة الطلابية، أذكر المعيدين الذين ربطتني بهم صداقات تماما كالطلاب والطالبات. وكما تحولت وخرجت من جحر الأنطواء، تحولت وما صرت ذلك الطالب المتفوق كما كنت سابقاً. زادت علاقاتي وكما زادت، زادت سنواتي بالدراسة الجامعية، أو ربما زادت علاقاتي لزيادة تلك السنوات. كنت ذلك الطالب المعروف في كل ركن بين كل جماعة، ومع ذلك، ورغم الترحيب المحمود، لم أكن عضواً في أي تجمع بين أي طلبة، كنت أشاركهم الجلسة المنعقدة أصلا ثم أذهب لجلسة أخرى مكتملة قبلاً. تعلمت أن اتكلم بكلام الجمع ولا اتحدث بكلامي أنا في معظم الأحيان.

كان ذوقي في الأفلام والكتب والموسيقى غريباً بالنسبة للكثير إن لم يكن الكل. تلك الفترة التي سبقت الجامعة، وقضيت معظمها في المنزل مذاكراً لم تكن مذاكرةً مجردة طبعاً. بدأت فيها اكتشاف نوع جديد من الأفلام وأنا لم أكن قبلها إلا محباً عادياً للسينما، تلك الأفلام التي علمت جيدا أن لا طاقة لكثير لروئيتها. أفلام قديمة كلاسيكية، أفلام ملحمية، أفلام السير الذاتية التي تتخطى مدتها الثلاث ساعات، أفلام وثائقية وغيره. كل فيلم فتح في رأسي مكانً لفكرة، وكل فكرة قادتني لكتاب قد يشبهها وقتما كنت أتحسس الكتب، فأكتشف أن لا شبه بين الكتاب وما كنت أبحث عنه فيخلق الكتاب فكراً جديداً. وكل كتاب قادني إلى كاتبه فعرّف كل اسم عدداً من كتبه لي. الأفلام والكتب أتت بأنواع شتى من الموسيقى، والموسيقى أتت بالمسرحيات، والمسرحيات سحبت في يدها التماثيل التي عرفتني على ألوان من الأشعار وفترات من الفن ميزتها عدد من اللوحات. ذلك الذوق المتشكل المتشعب كان غريباً على كل من كان حولي، وانعكست تلك الغرابة على فكري ورأيي في كل ما اختبرته في تلك الحياة. فكانت سنواتي في الجامعة كلام كثير معتاد ومُعاد. أما ما كان في رأسي، فظل بها وكبر في داخلها، وكأنني تعمدت أن اختار ما هو غير مألوف وقتما كنت أنا غير مألوف، فألفت ما اخترت وألفني.

أذكر تلك الفتاة الأجنبية التي أتت لإتمام جزء من دراستها في جامعتنا، أذكر أننا قضينا معا، وسط جماعة لم تتقرب مني إلا عندما لاحظوا صداقتي مع تلك الفتاة، وقتا طويلا وجيدا. أذكر أننا ربتطنا صداقة قوية، قبل أن تتحول مشاعري لتعلق قوي فأقوى بها، ظننتها بادلتني ما شعرت به. أذكر الضمة الأولى، والتي لم تعن شيئا بالنسبة لها، فهي أتت من تلك البيئة حيث السلام بالتقبيل والعناق أمر عادي عكس ما تعلمت أنا في صغري، لكنها كانت الأولى بالنسبة لي وأذكر ملاحتها وقتما كانت، وتسائلت لماذا حُرم علينا أمر كهذا وهو لا يوصف إلا بالجميل. أذكر العناق الأول بعدما صارحتها بما شعرت، أذكر أنه كان مختلفا عن كل عناقاتنا اليويمة قبل تلك اللحظة والتي كنت اعتدت عليها، وأنه كان أكثر حلاوة وأكثر دفئاً وخصوصية، وأطول مدة. أذكر القبلة الأولى والتي ظننت بعدها أنني امتلكت الفتاة وامتلكتني، وداعبت رأسي الأفكار لمستقبل قد يجمعنا للأبد. أذكر التعلق المتبدال والأحاديث الطويلة عن كل شيء وأي شيء. أذكر أنها بادلتني كثير من أفلامي المفضلة وموسيقاى المحببة، حتى انها اقترحت عليّ في يوم أن نذهب إلى دار الأوبرا ونقضي ليلة نستمع فيها إلى اوركيسترا القاهرة السيمفوني، واقترحت في أخرى أن نذهب ونستمتع بعرض باليه بحيرة البجع، وفي أخرى أن نشاهد فيلماً وثائقياً عن عالمنا الحديث والأمراض الجديدة التي ظهرت بتطور حياتنا، في المركز الثقافي الفرنسي.

كانت أيامنا ممتعة، مثرية للعقل والروح، كانت مثرية هي لقلبي. إلى أن أتى اسبوع بعد أن انتهى العام الدراسي وعدتني قبله بالذهاب لقضائه مع عائلتها على أن تعود وتعمل هنا بعد أن أتمت مقابلتها في أحد الشركات العالمية واجتازتها بنجاح. "سأعود" وعدتني. ذهبت، لكنها لم تعد، وعرفت بعدها أنها تعيش حياتها في بلادها مع صديقها الذي انتظرها كثيرا وقتما كانت هي بين أذرعي. ذهبت ولم أودعها ذلك الوداع المناسب لذلك الغياب الذي صار أبدياً. لم أكن أعرف أنه أبدياً فلِمَ أودع؟، لم تخبرني، ولم تخبرني عن صديقها الذي حذفني من صورة المستقبل الذي جمعني بها ووقف هو مكاني فيها. لكنه بدى ساذجاً بقرنين وبدت هي مشوهة. لم أكن أعرف.. تماما كعدم معرفتي بأمر المنزل والمنزل والصبي والمدرسة والفتاة الخجولة وأخي.

أذكر أنني تأخرت في دراستي، فتخرجت الدفعة التي كنت منها دون أن أكون بينهم في حفل تخرجهم، والدفعة التي تلتها، والدفعة التي تلتها، فلم أودع أي منهم وقتما ودعو هم بعضهم البعض، وودعوا الجامعة التي قضوا فيها أربع سنوات وقضيت أنا فيها ما هو أكثر. أذكر أن كل تلك الأعداد التي عرفتها في الجامعة ذهبت، فالطلاب تخرجوا، والمعيدين إما سافروا لإتمام الدراسات، أو تركوا المكان للذهاب للعمل بآخر، أو تركنه للزواج والتفرغ للرجل والمنزل. والفتاة اختفت ولم تعد. أذكر يومي الأخير في الجامعة، كنت وسط شباب وفتيات  أصغر مني سنّاً لم أعرفهم ولم يعرفوني،. عامي الدراسي الأخير اقتصر على الذهاب وقت المحاضرة والإنصراف فور انتهائها، لا مجالس ولا تسامر، ولو كان هناك وقت فراغ بين محاضرتين، كنت أقضيه منكباً على صفحات كتاب. قضيت في اليوم الأخير امتحاني الأخير وذهبت، دون أن أجد من أعرفه لأودعه.
***

أذكر قريباً، بعد المنازل والمدارس والجامعة والفتيات والطلاب وأخي. أذكر انضمامي للعمل بشركة انتاج وتوزيع سينمائي، أذكر حبي للعمل وحماسي واختلاطي وانخراطي السريع بالعاملين وارتباطي بتلك البيئة الغير رسمية تماماً في تعاملها. أذكر مشاهدتنا للأفلام قبل عامة الناس الذين كنت منهم قبل الالتحاق بذلك العمل، أما بعد، فكنت من أهل السينما الذين أحببت وجودي بينهم وبين الفنانين والمشاهير، حتى وإن كان عملي أقل كثيراً من عمل الكبار في المجال، وحتى الصغار، لكن وجودي هناك حمسني لأن أكون بينهم كمؤلف يوضع اسمه على أكبر الأفلام في يوم ما. أذكر أنه في يوم، وبعد أن قضيت ثلاثة أشهر في العمل، كنا نرتب لزيارة أحد أفلامنا لأحد المهراجانت الأوروبية الدولية، وكنت من هؤلاء اللذين كان يفترض سفرهم مع المسافرين من الشركة وصناع الفيلم إلى إيطاليا. إيطاليا، تلك كانت بلد الفتاة التي عرفتها في الجامعة.

ذهبت لأستخرج أوراقي وتصريح السفر، كان يملؤني حماس لم يزرني قبلا إلا عندما كنت أقف أمام منزل ذلك الصبي منتظراً أن يفتحي لي فنلعب البلايستيشن، أو عندما انتظرت أن أرى تلك الفتاة في المدرسة قبل أن انتقل منها فجأة. حماس قوي، فلم تتح لي الفرصة للسفر خارج البلاد قبلاً. كان العمل في تلك الشركة لا يتطلب أي أوراق تفيد بتأجيل خدمتي العسكرية أو اتمامها أو إعفائي من أدائها، فلم أتكبد عناء المشاوير حينما التحقت للعمل بها، ولم أتكبدها إلا وأنا راض تماماً لاستخراج ما يلزم لأسافر. درت أيام بين المكاتب الحكومية والمصالح العسكرية، كان والدي قد تخطى الستون عاماً حينها، وكان أخي الكبير حيث كان. أنا الابن الوحيد ولرجل كبير في السن. كنت قبل البدء في تلك الذهابات قد أخبرت والدي عن السفر، ارتبك ثم عارض بشدة، ولأسباب كانت في غاية البعد عن أي قوة أو إقناع، لم أفهم ردودره. استمر سعي وراء الرحلة. وفي اليوم الأخير الذي لم أظنه الأخير، انتهي سعيي فجأة ومات.

أخبرني مجند في أحد المكاتب أني مطلوب للتجنيد ومتهم بالتهرب من أداء الخدمة العسكرية، أخبرته أنني وحيد لأب تخطى الستين، وما يلزم هو الإتيان بما يثبت لاقتناء شهادة الإعفاء. لم أصدق المجند، ظننته ينطق بما يحفظ فقط، وهو غالباً ما حدث، لكنه أخبرني أن في كل الأحوال، سواء كنت مطلوب أو معفيّ، يجب أن أئتي بشهادة قيد عائلي، ذهبت ورائها، ويا ليتني لم آت بها. كانت الصدمة التي لم أتوقعها، صدمة منعتني من السفر وأجبرتني على ترك العمل وشعرت وكأنما انتهت حياتي حينها. أفادت الشهادة بأن لدي أخ يكبرني بعام واحد، من زوجة أب لم أعرف عنها شيئا ولم أعلم بوجودها من الأساس. وأن ذلك المخلوق الجديد الذي ظهر فجأة على الورق هو الابن المعافى، وأنا هو الأخ المطلوب للتجنيد.

جن جنوني، حاول أبي إيضاح الأمر ولما فشل بدأ في الشخط والصياح والسباب. كنت كرهت الرجل حينما انتقلنا من المنزل، وكرهته حينما نقلني من المدرسة عنوة، وشعرت بضعفه لأول مرة وذوبان هالة القدسية من حوله حتى وإن أخطأ في حقي قبلها، حينما فشل في إرجاع أخي وبكى على اختفائه. أما في ذلك اليوم، عرفت أنني لم أكرهه قط قبلها، كرهته في ذلك اليوم وفيه فقط واستمر كرهي له مصاحباً إلى أمد. قرر الرجل في قرار أناني اتخذه قبل أكثر من ربع قرن، أن يتزوج سراً عنّا وينجب ولداً يتسبب في هدم الجزء الصغير والأول الذي اخترت أن ابنيه من حياتي. ربما لم يعرف أنني كنت لآتي إلى العالم أصلا، فابنه المذكور على الورق بأخً لي، هو الأكبر، لكنه هو السبب عرف أم لم يعرف، تعمد أو لم يقصد.

اخبرتهم في العمل عن الوضع وأنني مضطر للتغيب بضعة أيام حتى انتهي من تلك الأزمة، استبدلوني بغيري مؤهل للسفر، وحينما ذهبت في يوم بعد أيام من الذهاب إلى منطقة التجنيد ومناطق أخرى، وكان اليوم سبت، أُخبرت أنني يجب أن أحضر في الغد ليتم ترحيلي. نعم، بتلك السرعة. ذهبت، في اليوم الذي كان من الفترض أن أكون فيه على الطائرة منطلقاً إلى إيطاليا، زحفت إلى منطقة عسكرية في الصحراء وكأنني مساقاً ولا أعرف لماذا استمرت خطواتي في الإجرائات التي أدت للالتحاقي بهذا المكان، وكان من الممكن أن أعود فور أن أخبرني الجندي بأنني مطلوب وأهرب واستمر في عملي دون أن يعلم أحد. وصلت في السادسة صباحاً شاعراً أني أسير حرب. لم أكن أعرف شيئاً عن المكان أو أحداً. كان الكل مستيقظ، وأنا لم يزرني النوم. كانت الحركات سريعة وأنا ثابت لا علم عندي بما عساي فعله. أتى رجلاً وضع يده عليّ وأفزعني صوته العالي وهيئة شاربه. "انت المتهرب يا يلا؟" لم أجد كلاما أنطق به، بل وجدت رأسي تفيد بالإيجاب. ضحك الرجل وأخبرني ألا أخاف، أنني محظوظ حظ لم يحظ به أي من هؤلاء الآلاف من المجندين. ثم تركني وذهب.

كانت سعادة لم أعرف لها سبب كما لم أعرف لوجودي هناك سبب، تغمر أوجه الشباب. أخذني الصول الذي ضرب على كتفي وأخبرني أن ارتدي ملابسي وأنتظر في غرفة شخص لا أذكر رتبته. انتظرت عدد من الساعات لا أعرفه، لم تكن هناك ساعة ولا في يدي. أتي الرجل، ووقفت أمامه صامتا بملابسي العسكريةً. جلس وسألني عن أسباب تأخري فأجبت. هددني بالحبس للتخلف. لم أجد ما أقوله وتأهلت نفسياً لما هو أسوء. وبعدها نادى على الصول الذي –ولا عجب- كان اسمه عطية، وأمره أن "خليه يروّح"، فكان اليوم الذي وصلت فيه هو آخر يوم للمتدربين في المركز وأول يوم في أجازة مدتها اسبوع. مدة رحلة إيطاليا.

أخذت الأجازة بعدما قضيت بضعة ساعات حيث قضي الجميع أكثر من شهر. أخذت  أجازة فارغة زرت فيها مقر عملى الذي تركته بغتة وودعت زملائي اللذين صاروا فجأة سابقين، وحكيت لهم مذهولين، وطلبت منهم إرسال سلامي لمن بالمهرجان حين عودتهم، حين تنتهى أجازتي وأكون في مكان جديد لا أعلم ما ولا أين هو.
***

دعك من كل هذا، فحقيقة الآن، كل ما ذكرت ليس مؤلماً على الإطلاق كما بدى من الكلمات، إلا أمر أخي وأمر التجنيد المفاجيء، وربما أمر الفتاة الثانية، وقطعاً اتهامي لأبي بالخيانة. اليوم أنا في طريقي إلى المطار، أعلم أنني تأخرت وأنني لن ألحق بك، لكنني أجرب، أجرب كما جربت أشيائاً قديمة ولم تفلح التجارب، إن نجحت ورأيتك فهو وداعٌ ناجحٌ أخيراً ووعدٌ بلقاء جديد، وتمنياتٌ صادقة بالنجاح في رحلتك الطويلة، وإن لم أفلح فلن تكون المرة الأولى.

أذكر قريباً، أو حقيقة لا أذكر! كيف تقابلنا أنا وأنت؟ أعرف أن السبب هو صديقنا المشترك، الذي لا أذكر كيف قابلته أيضاً، هو صديق لي منذ أعوام طوال نتقابل على فترات متباعدة، وفي يوم كنت أنت بيننا وتعرفنا. أذكر قريباً، تلك المقابلات الطويلة بين ثلاثتنا أو بين اثنتينا، التي لم تكن تخلو من حديث عن فيلم أو أغنية أو مقطوعة موسيقية أو رقصة أو كتاب أو مسرحية. بدأ الأمر بمعرفتك أنني أكتب شيء من القصص القصيرة والخواطر، وعندما رأيت فيك الحماس أخبرتني أنت بفكرة لفيلم قصير وددت كتابته. أبهرتني الفكرة، وكسرت غروري بمعرفتي أنني كاتب جيد وأفضل من كل من رافقتهم، وأنني مختلفاً وأرفع ذوقاً من الجميع. أبهرتني وعرفتني أنني أردت ذلك التحدي لأستمر.

أذكر التطور السريع، بتلك الأحاديث الفلسفية عننا وعن الوجود وعن الإله وعن الدين وعن الحياة، أذكر التحليلات النفسية، والاقتباس من كتاب ومفكرين وفلاسفة. أذكر حينما اقترحت على أن أشاهد فيلم مدينة الإله البرازيلي والذي كان أول فيلم أره لا هو ناطق بالعربية أو الإنجليزية. لم أرفض الفكرة وطبقتها بحماس. أبهرني الفيلم، ثم بدأنا معا مراثون طويل في مشاهدة الأفلام التي دعيناها بين الآخرين "أفلامنا". فتسابقنا لمشاهدة فيلما جديداً كلما استطعنا. أذكر حواراتنا الطويلة عن مئات الأفلام التي شاهدناها بعد إتفاق والمئات التي اتفقنا أن نشاهدها، والغيرة التي كانت تصيبني إن علمت أنك شاهد واحداً لم أره أنا بعد. أذكر كلماتنا الكثيرة عن نجيب محفوظ ويوسف إدريس ورضوى عاشور وبهاء طاهر وسبابنا لهم كلهم تقديراً واحتراماً وذهولاً من منتجاتهم! أذكر أفلام لارس فون ترير وجاي ريتشي وستانلي كوبريك فيدريكو فيليني وتشان-ووك بارك وأندري تاركوفسكي، اللذين نالوا قسطاً مماثلا من السباب، خاصة هذا الروسي، تاركوفسكي، الذي أخذ من وقتنا بأفلامه وأحاديثنا عنه الكثير. أذكر فيفالدي وتشايكوفسكي وليناردو دا فينشي ومايكل أنجيلو وسالفادور دالي وبيكاسو. أذكر أن طوال تلك الأعوام التي عرفنا بعضنا خلالها، لم أجد أحداً لا يسخر من ذوقي في الأفلام التي وصفها الجميع "بالمملة" والموسيقى التي وُصفت "بالهبل" واللوحات التي نُعتت "بالخبل" إلا أنت.. وقبلك بأعوام تلك الفتاة الأوروبية. أذكر، أن كل عمل تحدثنا عنه، كان تجربة، وتجربة مثرية ومؤثرة ومثيرة للنقاش والتحليل، وليست مجرد شيء للتسلية. لقد كرهنا التسلية أكثر من اللازم، واعتبرناها تفاهة وهدر للوقت والنفقات المنفقة عليها.

لم تكن كل الأحاديث بذلك الثقل، كثيراً ما شاهدنا مباريات مانشستر يونايتد وسببنا ولعنا الأداء والمدرب واللاعبين. ولعبنا البوكر بذلك الطاقم الذي طلبناه خصيصاً من الخارج. وشربنا مع الشباب كثيرا في ليالٍ طالت علينا ولم يطلع لها فجراً. كنا نندم في كل ليلةٍ من كثرة الشرب، وفور أن تعد إلينا عقولنا نتذكر ونضحك، فنعيد الكرة بعدها بفترة قبل أن نندم قبل أن نستفيق فنضحك.

أذكر حديثك عن ذلك السفر قديماً، وأن لا ملاذ للأطباء إن بحثوا عن حياةٍ كريمة وتقديراً لمكانتهم العملية إلا الهروب.. لا ملاذ للجميع إلا الهروب. أذكر تشجيعي لك ووعدي أن ألحق بك في يوم قريب إن حدث وسافرت، إما زائراً أو متمّا لدراساتي العليا في مجال الأدب. أذكر حماسك، واختفاؤك قبل كل امتحانٍ عرفت أن عليك أن تجتازه حتى يتم القبول في البلاد التي طالما أحببتها أنت حتى قبل أن تزورها. مقتنعٌ أنا بذلك الارتباط بثقافة ما حتى قبل أن تختبرها، لا أعلم لماذا أعشق اللغة الفرنسية ومشاهدة الأفلام الناطقة بها ورؤية صور من تلك البلد. اخترت أنا فرنسا واخترت أنت انجلترا، وكان لك ما اخترت.

أقترب أنا الآن من المطار، وأسمع صوت طائرة تعلو فوقي، ربما هي طائرتك ربما هي أخرى.

ستسافر أنت، وأنا ستنتهي أجازتي وأعود إلى المعسكر. سنتقابل، ليس اليوم، أعرف أنني لن ألحق بك، فلقد أغلقت هاتفك، ومع ذلك مستمرٌ أنا في التقدم. سنتقابل حينما تأتي، وستحدثني عن أول يوم لك في لندن وأحدثك عن أول يوم لي في الخدمة.

 ستحدثني ضاحكاً عندما نسيت الfreshbuzz في حقيبتك قبل أن تدخل حمام الفندق في يومك الأول، وسأحدثك أنني قاومت جسدي اسبوعاً كاملاً حتى لا اضطر لاستخدام مراحيض الجيش.

ستحكي عن نومتك في المنزل المستأجر وأنك وجدت في المرتبة المبتاعة مستعلمة قطع، فلما ذهبت للبائع، ضحك ومازحك أن لابد أن من باعها له كان يهرب فيها الكوكايين، وسأحكي لك عن قطع وثقوب مرتباتنا التي احدثها حديد سرير العنبر وأوشك على البدأ في اختراق أجسادنا.

ستخبرني عن يومك الأول في المستشفى، وحماس الزملاء ورقيهم في التعامل، وسأخبرك أنا عن جندي سرق مني القداحة في يومي الأول وحينما تشاجرت معه أوشى بي للصول كذباً أن الكتب التي أقرأها مساءً هي كتبً سياسية.

ستقول لي عن دكتور يرأس القسم الذي تعمل به، سأسميه تخيلاً ريتشارد، وعن حماسه عندما قابل أخيراً ذلك الشاب المصري، سيحدثك عن زيارته القديمة لمصر وكم أحبها هو، وستحدثه أنت بنوع من الأسى أن الأمور ليست كما كانت. سأقول لك أنا عن الصول، وأن اسم عطية هو لقب يعطى لمن يتخطى سناً معيناً ومكانة ما بين المعسكر بعد سنوات طوال في الخدمة.

ستقص عليّ حينما رزت مسرح الأحلام، وشاهدت ديربي مانشستر من مقاعد الجمهور الانجليزي في مباراة تحديد الفائز بالدوري، الذي سيفوز به اليونايتد في الدقائق الأخيرة وستحتفل أنت في أحد حانات الهولجانز مغنياً معهم Glory glory Man United، وسأقص عليك أنني سمعت مباراة الأهلى والاسماعيلي في المذياع، إلى أن حان موعد النوم، بقيت مستيقظاً في الفراش دون مذياع ودون أن أكمل المباراة.

ستتذكر أمامي وتذكر يوم أمطرت السماء فجأة دون أن تكن مستعداً، وبدلاً من أن تهرول لتختبأ من الماء المنهمر، وضعت السماعات الصغيرة في اذنك واستمعت لكونشيرتو "شتاء" من سيمفونية الفصول الأربعة لفيفالدي. وتسارعت خطواتك ليس هرباً من المطر، إنما بتسارع الموسيقى التي حركتك، وستذكرني قصتك فأحكي لك أن وقتما هطلت علينا السماء كنا واقفين في طابور امتد وقته لساعات لا أذكر عددها، وبعدما جفت الأمطار، كُلفنا بمهمة مسح المعسكر وتجفيف أرضه وبعدها أصيبنا جميعا بنوبة انفلوانزا شديدة.

ستخبرني عن ابنة دكتور ريتشارد، فلنسمها صوفي، وأنها هي من كسرت عندك ذلك العناد واقتحمت وقتك وعقلك، ستخبرني أنها أخذتك في نزهة إلى أيرلاندا الشمالية حيث تسكن هي وحدها، وصنعت لك مشروب البايليز  بيدها وفي المنزل، وسأخبرك أن أحد ألعابنا في الجيش كانت إلقاء أكياس الشاي المبللة بعد الانتهاء من شرب الكوب لتلتصق بالسقف.

ستعلمني أنك أحببت صوفي، وأن علاقتكما تتطورت وأنها عرفتك على أهلها، أقصد أمها وأخيها، فأنت تعرف ريتشارد، وكم كانت عصيبة ومضحكة تلك الليال التي كنتما تبيتان فيها في منزل عائلتها، وكم كان من الصعب أن تكونا في مكان واحد ومجبرين محترمين لأصحاب المكان، على عدم التلامس، فكنتم تختلسون القبلات ليلاً وتضحكون. وسأصمت أنا لأنني لن أتذكر حينها متى كانت آخر مرة صافحت فتاة أو حتى امرأة.

ستحكي يوم دورة بوكر اشتركت بها، وأنك بدأت بخمسون جنيه استرليني مجرباً على طاولة صغيرةً، وانتهت الليلة بخروجك من الملهى الصغير في الحي بسبعمائة جنيه ومشروب مجاني مقدم للفائز. وسأحكي لك عن رهان السجائر الذي ننظمه قبل مباريات السيجا وأنني في يوم فزت بأربع سيجارات سوبر.

ستحدثني عن زيارتك لمتحف لندن، ومشاهدتك لأحد العروض المسرحية للبؤساء في برودواي، ولحضورك حفل لستيفين ويلسون، ولترقيتك في العمل وتحولك لأحد أهم الأطباء الشباب في المستشفى. وستحكي عن كثير وأكثر، بينما ستنتهى أنا حكاياتي سريعاً وتضيع في الأيام المكررة المتشابهة، فأجلس فقط لاستمع وأشعر بحجمي يصغر وبالزمن بيننا يبتعد.

أعلم أني سألقاك مجدداً، عكس كل الوقائع التي ذكرت، سألقاك في عطلتك لتحك لي، وستنهي كلامك في المقابلة الأخيرة بيننا قبل العودة للندن، بأنك أحببت الحياة هناك، ولم تعد تشعر بحنين للبلد ولا للأهل ولا للأصدقاء. ستختم حديثك أن المناخ هناك رغم الوحدة إلا من رفقة صوفي، هو المناخ الأنسب والأصح، وأن المجهود المبذل هنا للوصول لغاية، إن بذل نصفه هناك سيأخذ بصاحبه إلى ما هو أبعد من أبعد ما وصل إليه واصل هنا. ستخبرني عن اختفاء العقبات الموضوعة بغير منطقٍ في بلدنا، وبألف سبب آخر يساعدك على البقاء هناك ويمنعك من العودة إلى هنا، ألف سبب لا أحتاج لأي منهم لأقتنع بهدفك في الابتعاد، أنا مقتنع دون أسباب، وأنت مقتنع دون شرح. ستوعدني بعدها، وحينما أسألك متى أراك مجدداً ستخبرني أنك في انتظاري في أي وقت، لكنك، ربما، قد لا تأت هنا مجددا.


ها هي طائرتك تبتعد، وأنا تحتها أنظر إليها تشق سحاب بلادنا الرمادي، إلى عالم جديد عليك ستحكِ لي عنه. ها أنا أتحرك بسيارتي، انتظر في الزحام والضوضاء والغيم، مرور الوقت حتى تأخذني سيارة أخرى، إلى عالم جديد عليّ قد أحكِ لك عنه.

Popular posts from this blog

الدور العشرين

من الزهور للجذور 4: بميعاد مسبق

على الجانب الآخر