الحيوان


لم يكن كابتن سيد السبع، اقدم أعضاء السيرك، حاضرا في الإجتماع الطارىء الذي قام به المدير. ورغم أن الكابتن هو مدرب الأسد غضنفر الذي تسبب مرضه المفاجيء بأزمة حقيقية لكل العاملين بالسيرك، إلا إنه كان آخر العالمين بأمر المدير لحل الأزمة.
مرض غضنفر المفاجىء حل عليه قبل يوم واحد من بدىء العرض الأهم للسيرك في آخر عدد من السنوات. فبعد أن فقد السيرك المتنقل رونقه وسمعته، سواء بسبب تكرار العروض القليلة أصلا، أو بسبب استمرار نقص العارضين على مر الأيام واعتذارهم لأي سبب كان، خاصة لكبر السن، أو بدون أسباب أصلا لمجرد أنه صار موضة اقترنت بزمن فات؛ جائت فرصة محاولة احيائه من جديد بعد أن استقبل المدير هاتفا يعلمه أن قناة تليفزيونية مغمورة تود أن تنتج فيلما وثائقيا عن السيرك وتاريخه الذي لم يعش منه إلا غضنفر وكابتن سيد. بالإضافة إلى عدد قليل من عارضي الأكروبات الصغيرين والمتناوبين بخبراتهم القليلة على السيرك وأهله. وكان مهم جدا أن تصور القناة أحد العروض لا سيما وأن غضنفر سيكون موجودا وهو الأسد الذي انتزع بزئيره ساعات من التصفيق أيام العز.

لم يود المدير تأجيل التصوير ولا العرض، خشى ألا تأتي الفرصة من جديد، ولم يود أحد من عاملي السيرك الغلابة أن تتحطم آمالهم بعد أن بدى لهم وأن أخيرا أزامتهم المادية الأزلية سيفرجها التليفزيون، فكان من الصعب الإقدام على خطوة كتلك بعد أن رأت المدينة المختارة للعرض الاستعدادات وعربة التلفزيون بمعداتها. فكان الحل ولا حل غيره، هو إيجاد بديلا فورا لغضنفر دون أن يعلم أحد بالاستبدال. ذهب المدير بقامته القصيرة إلى كابتن سيد الذي كان يداعب شعر الأسد العجوز الكثيف بأسى ويحاول إطعامه بيده، والسبع العليل لا يستجيب. كان الكابتن يكلم الأسد وهو يضرب كفا بكف "هو كان لازم تعيا النهار دة، مانت طول عمرك تور، الله يسامحك يا غضنفر". استأذن المدير لعرض الفكرة وكيفية تنفيذها. خرج الكابتن بقميصه الأبيض ذو الخطوط السوداء على جسد كان يوما قويا يحمل اليوم قلبا هزيلا، وساعدين ممتلئين لكفين منتفخين.
فتح المدير كلامه مداعباً صلعته:
-                     غضنفر حالته إيه دلوقتي يا كابتن؟
-                     ربنا يقومه بالسلامة.
-                     خير يا كابتن، ماتقلقش، غضنفر هيرتاح لحد ما يقوم بالسلامة.
-                     والله يا باشا كان نفسي أكون في العرض. ربنا عالم بحالنا وعالم محتاجين القرشين قد إيه.
-                     هنفذ العرض يا كابتن، أنا جايلك أقول لك عرض الأسد هيتم إزاي والقرشين جايين ان شاء الله.

تعجب الكابتن، فلا أسد للقيام بعرض الأسد، والسرك لم تعد لديه موارد ولا اتصالات ولا وقت لجلب غيره ولو حتى على سبيل الاستعارة، ولا زمن متاح إن جاء  أسد آخر أن يتعايش معه كابتن سيد وتنتج بينهم الكمياء التي نتجت بينه وبين غضنفر على مر سنوات.

استكمل المدير حديثه بصوته النحيف عكس بدنه والعالي:
-                     يا كابتن انت عارف حركة التليفزين دي كلنا محتاجينها إزاي، وانت أولهم. انت أكتر واحد فاهم غضنفر والعشرة بينكو سنين، وعارف هو بيتصرف إزاي وعارف حركاته اللي انت مدربه عليها. أنا باقول اننا نعمل حركة وماحدش هياخد باله منها. تقوم أنت يا كابتن بدور غضنفر النهاردة بس عشان عدد الناس إللي جاي والتليفزيون، وبعد كدة نأجل أي عرض جاي لحد ما يقوم بالسلامة.

لا عجب أن تعجب سيد من ذلك الطلب الغريب، لم يفهم فاستهفم عن قصد المدير. كانت فكرة المدير أن يتنكر كابتن سيد في شكل غضنفر، يرتدي زى مستعار، وتقوم أحد الفتيات برسم ما هو مطلوب بالمساحيق، ويقوم بالحركات على المسرح كأنه أسد مروض، توضع له حلقات النار ودرجات السلالم والكور الملونة، وكلها حركات سهلة لأي شخص يمشي على اثنتين، وإن لم تكن سهلة فهي سهلة على سيد مروض الأسود المغوار. وعندما يحين الوقت الذي سيتفق المدير معه عليه، يحرك كابتن سيد وجهه وكأنه يزأر، فتقوم مكبرات الصوت بتشغيل صوت زئيرحقيقي. فلا أحد يلحظ أي شيء مثير للريبة لا في الصوت ولا الحركة.

حاول المدير إقناعه بشكل ظاهري احتراما للسن والعشرة، وهو في نفسه يعلم أن قراره في طور النفاذ أصلا، وأغراه بالمرتب الذي سيزيد حتما بعدما تنفتح طاقة القدر للسيرك بعد العرض التليفزيوني، ولا داعي لذكر حالته المادية وحال زوجته ومتطلبات ابنته. ولما سأل سيد ساخرا عن من الذي سيستبدله إن قام هو بدور غضنفر، فكان رد المدير أن الناس لا يوجد أكثر منهم، وأن إعلان مرض المدرب أهون من إعلان مرض السبع. ذهب المدير تاركا العرض لسيد الذي امتلأت رأسه بالسخرية، ثم الغضب من طلب قليل القيمة كذلك. ازداد غضبه، فاتصل بزوجته يشكى لها كيف تعاملت ادارة السيرك معه. سمع العاملين القلائل صوته من خلف الباب وهو يصيح محدثاً "أم مها" دون أن يتوقف، أمام غضنفر الراقد دون مشاركة، مرددا ومككرا "أنا يتقال لي أبقى بهمية". هدأ صوته شيءا، وتباعدت كلامته السريعة عن بعضها، ثم بدى وكأنه يحاول إقناعها بشيء أو تغيير رأيها نحو شيء بعدما كان يشكو دون توقف، ظل يقول لها "إزاي بس يا أم مها، ربنا يحلها بس ماعملش كدة، ترضي دة على جوزك" إلى أن أنهى كلامه ب"ربنا يسهل" في تحول من صوته الغاضب إلى آخر متحير.

انتهت المكالمة ولم يخرج الكابتن من الغرفة ولم يخرج له صوت. بعد ساعة أو أكثر، توجه برأس مثقل وكفين متشابكين نحو غرفة المدير. دخل الكابتن، وتكلم كأنه يحاول أن يحافظ على كبرياؤه الذي أهدره بطلبه: أن تلك التمثيلية الرخيصة زمنها نصف ساعة واحدة، تعرض غداّ فقط نظرا لحالة غضنفر الطارئة، ولن تتكررأبدا مهما كانت الظروف.

***
 
وقف كابتن سيد يعد ما في جعبته من جنيهات. استأذن أحد العاملين في تليفونه ليتصل بأم مها يسأل عنها بعد أن نفذ رصيده، طلب منها الدعاء وأخبرها أنه سيعود في الصباح، فيكون قد قضى ليلته بجانب غضنفر بعدما ينتهى العرض. كانت فقرة البهلوان هي الأخيرة قبل فقرة غضنفر المنتظرة. وكان كابتن سيد أمام مرآة بالية يتفقد في رثاء مظهر بدلة التنكر الواسعة والشعر المستعار الذي تعلق به الوسخ، والمساحيق الرخيصة التي أجبرته على حك وجهه أكثر من مرة، والموسيقى في الخارج تزامن حركات البهلوان الرتيبة التي ظل يكررها لعقود، بحذائه الاحمر المهترىء وأنفه الاسفنجي الذي تقطع. وضحكات الجمهور الذي كان أكثر من المعتاد نسببياً كانت عالية، لكنها لا تقارن بالضحكات التي ستطلق حينما تقع الأعين على غضنفر المزيف، هكذا ظن الكابتن، الذي شعر أن الموسيقى كانت تلعب لتصوير حاله وليس لسقطات البهلوان وألاعيبه عديمة القيمة.

دخل المدير على سيد، وفي إثره رجل ضخم لم يرى سيد في حياته حجم كحجمه قط، رجل أسمر حجب في ظهره النور وحط بظله على كل أرجاء الغرفة، وأرعب غضنفر المريض نفسه بهيئته. صافح الرجل بكفه العملاقة، وقدمه المدير بأنه ممثل كومبارس معرفة، وهو الذي سيقوم بدور المدرب بعد أن أعلن السيرك مرض الكابتن. ضحك المدير مداعبا سيد "يا راجل ماتخفش، دة ممثل، يعني أكثر واحد هيقنع الناس بأي حاجة، إيه رأيك في الفكرة دي" ثم توجه بكلماته للرجل بعد ما لم يجد سيد ما يرد به "يلا يا عربي، الكرباج هناك أهه، هاته عشان نتوكل على الله" قبض عربي على السوط، واستمع لنصائح كابتن سيد في كيفية استخدامه، وهو يضحك بوقاحة على مظهر العجوز ويتصنع أنه يحاول كتم الضحكات. استمر سيد في الشرح متجاهلا ولم يبد أبدا له أن عربي يفهم أو يكترث.

انتهى عرض البهلوان النحيف. و بعده خرج العمال، وبدأوا في وضع الأقفاص وتركيبها حماية للجمهور، فتنغلق الحلبة على الغضنفر وعلى مصارعه البديل فقط. أعلنت الفتاة في المكبر بصوتها المبالغ في ميوعته عن الفقرة المنتظرة. حينما كان يهرول كابتن سيد من غرفته مقسما للجميع أنه لن يقوم بأي شيء ولو على جثته، كان يصيح يتحرك في زيه الواسع ويترحك حوله الشعر المستعار، فبدى وكأنه قرد غاضب يتلاعب به أحد زوار حديقة الحيوان. توجه للمدير قبل أن يأخذ مكانه بين الصفوف. دفع المدير سيد بعدما كاد أن يخرج للحضور، وكاد أن يصرخ من الورطة التي يريد الكابتن أن يحبسه بداخلها. قفز الرجل القصير وصفع صلعته وكأنه عجوز تعدد، و توسل لسيد وكاد أن يقبل قدمه، لا وقت ولا مجال لتغيير الآراء، وأقسم له أنه سضاعف حصته عن تلك الليلة فتكون ستمائة جنيه بدلا من ثلاثمائة. قبّل المدير رأس سيد وترجاه ضاربا على صدره، وهرول نحو مكانه بين الجمهور، وحضر عربى من لا مكان قائلا لسيد "ما يلا بينا يا كوتش".

دقت الطبول، وكان سيد ثابتاً، زجره عربي بنظرة فأخذ سيد وضع الاستعداد مرغما مفاصله بإنحنائه على أربع . ولما انتهى الدق المتواصل الذي طال منتظرا اقتراب الأسد، دخل سيد تابعا عربي، فشهق الحضور وصرخت الفتيات، ثم صفق الجميع بحفاوة. واجه سيد المقاعد، ورأي الكاميرا ومعدات الإنارة القوية، والمجمهور الكثير الذي -مع كثرته- لم يملأ نصف المقاعد. أنغلق القفص من جهة المدخل فتم القفل من كل جهة، وبدأ العرض. قفز سيد على السلالم وعربي يضرب له بالسوط في الهواء، وفي كل مرة ومع كل ضربة كان يحدث السوط صوت لم يسمع سيد طوال سنوات قبضته عليه صفعة بتلك القوة. تحرك سيد بخفة أذهلت  المدير، وكلما ضرب عربي اندفع سيد بخوف أكبر وخفة أكثر. كان يحاول أن يهرب من الكرباج المقترب الذي لم يتصور أنه قد يرعبه لتلك الدرجة الصعب تصديقها، فكان لا يجد أمامه إلا سلالم فيصعد عليها آملا أن تقود إلى مخرج، أو يفاجأ بحلقة نار فيقفز من خلالها. نسي التمثيل والأداء والمال والتليفزين، كان لا يفكر إلا في الهرب دون أن يقدر على الوقوف خاشيا أن يصتدم الكرباج برأسه المرعوب. استمر في الركض دائرا داخال الحلقة. صاح في مرة بصوته الآدمي وكأنه يستنجد، فتصرف عربي بسرعة وصاح صيحة أعلى "عااااا"، فلم يلحظ أحد أن سيد قد نطق بصوت. أشار المدير إشارة، فخرجت من المكبرات أصوات الزئير، فوق صيحة عربي، فجلبت فوق منها عاصفة صيحات وصافرات وتصفيق الجمهور الذي لم يتوقف.

استمرت دورات سيد وصيحات كل من بالمكان بما فيهم المكبرات. يدور يبحث بين حديد القفص عن مخرج. دار دوراته في 10 دقائق شعرها أمد طويل، وأحس أنه سيظل إلى الأبد يهرب من السوط ويبحث عن المخرج. انفتح امامه الباب الذي دخل منه أخيرا، هرول على أربعته كما دخل وركض إلى غرفته التي يشاركه فيها غضنفر في قفصه. انهار كابتن سيد وأصابته نوبة صياح وتكسير لكل ما رأته عينه، ظل يصرخ غاضبا غير مصدق لما فعله بفسه، صراخ لم يسمعه أحد بسبب طوفان التصفيق الذي لم يتوقف في الخارج. صراخ لم يسمعه إلا غضنفر.

انفتح الباب على الكابتن، فكان المدير ومعه كل عاملين السيرك كلهم يصفقون بحرارة. احتضن الجميع سيد الذي كان هدأ قليلا من الخارج فقط وأثار دموع مذهولة كانت قد جرت على وجهه اللملطخ بالمساحيق، وهنأه الكل بادائه المميز الذي لم يكن لغضنفر نفسه أن يتقنه بتلك القوة. لم يرد الكابتن ولم تخرج من كلمة، وعده المدير بهمسة في أذنه أن الستمائة سيكونوا ألفاً، وأن المهمة قد تمت بنجاح فلا داعي لتلك النظرة الخاوية.

***
 
هلت شمس اليوم التالي، ومن الباكر استيقظ الجميع، إلا كابتن سيد الذي لم ينم، فالموعد كان وقت تصوير القناة مع مدير السيرك والعاملين. بدأت الأحاديث امام الكاميرا، وتناوب كل من العارضين على الكاميرا والمقدم لقص حكايته من السيرك وألعابه، ومنهم البهلوان الذي أصر التأكيد أمام الكاميراعلى أنه يعمل في سيرك، عمل لا قيمة له ولا غاية منه ولا رجاء، لكنه باقِ فيه لأنه وجد نفسه هنا ولا يعرف ما هو الخارج ليخرج إليه يبحث فيه عن حياة أخرى.

انتهى الكل من كلامه، وكان النصيب الأكبر من الوقت بالطبع للمدير المُكور. لم ينقص إلا تصوير غضنفر وإجراء حديث مع مدربه. دخل المدير على الكابتن سيد. بعد أن صبّح وقبل أن يتكلم، أخذ يفرك يده في تردد ويبدل نظراته بين سيد والأرض. فتح كلامه بعد زمن "بص يا كابتن، أنا عارف انك تعبت معانا، بس والله آخر مرة. التلفزيون مجتاج يصور الأسد، دقيقتين بس مش أكتر وخلاص، ومن غير أي حركات. وحسابهم عندي حتى لو من جيبي". رفض الكابتن رفضا قاطعا بصوت ما بدى عليه أنه سيشفى أبدا؛ بقوله "أقسم بالله ما تتكرر أبدا، الكلام كان على امبارح وخلاص يا باشا قضيت". وكأنه كان متوقع الرد، لم يحاول المدير أكثر وخرج، ثم دخل بفريق العمل مشيرا إلى غضنفر ومعتذرا عن عدم مقدرته على الخروج الآن بعد عرض البارحة المرهق. فتم التصوير لغضننفر في قفصه والاستعانة بلقطات من العرض المصور قبلها. وكان عربي واقفا خلف الكاميرا مقتربا بتطفل منها وملاصق للعاملين، وممسكا بالسوط الذي لم يعيده لغرفة كابتن سيد بعد انتهاء العرض، وكأنه اقتناه. حينما استدعاه المحاور لإجراء الحديث الأخير مع المدرب الذي أذهل الجميع بسيطرته. استأذن المصور ابتعاد سيد عن المساحة التي تغطيها الكامير، فعل وانتظر ليرى كيف يكون حديث عربي المدرب عن الأسد الذي لم يدربه قط.

جلس عربي، وقبل بداية الحوار همس المدير بصوت مسموع لمن كان قريبا، "زي ما حفظتك بالضبط، تمام؟".
خرج سيد تاركا عربي يحكي عن بطولاته دون أن يلحظ أحد أنه خرج من الغرفة كمل لم يلحظ أحد وجوده بها. وبعد انتهاء الحوار دخل سيد لتنظيف الغرفة ولملمة أمتعته.  استعداداً للرحيل عائداً لبيته في القطر المتحرك مع الغروب. وكان في الخارج أصوات لعدد من البشر آتية من الساحة التي بُني فيها السيرك. انتشر الخبر بين الناس عن الليلة الفائتة وعن العرض الذي اتقنه الأسد تحت قيادة المدرب الجديد. فاتجهت الحشود إلى السيرك من الصباح طالبة شراء تذاكر لعرض الليلة. لم يكن أي من العاملين قد استعد لأي عمل بعد، حتى بائع التذاكر لم يكن قد فتح نافذته. لكنه اتجه إليها مسرعا بأوامر المدير المتهلل. الذي هرول يصيح في الناس مصفقاً بأنها قد فُرجت وذهب للبحث عن سيد.

استقبل سيد وسط الضوضاء هاتفاً من أم مها تسأله عن موعد العودة وكيف كانت الأمور، ثم سريعا اتجهت إلى صلب الموضوع وسألت عن قدر ما وضع في جيبه بالأمس. انطلقت منها زغرودة عند سماع الألف. ثم طلبت منه أن يحاول مع المدير أن يعطيه فرصة أخرى للعمل ذاته. لم يقو سيد على الشرح، وأوضح أنه بالفعل في طريقه للذهاب، وسينتظر القطار في المحطة ولو لأسبوع، فلا طاقة له بالمكوث هنا أكثر. وعندما سألته عن الضوضاء أجاب بأنها الجماهير. فنهرته على غبائه ثم استعطفته وصدّرت مها ومدرستها واحتياجاتها. وكادت أن تبكى وهي تترجاه ومتهمة له بأه لا يعرف شيء عن السيدة ولا عن الفتاة لغياباته المتوصلة. هنا قابله المدير راقصا رافعا وستطه وسباباته "ألفين، ألفين، النهاردة ليك ألفين" وأخذ منه الحقيبة وساقه إلى الغرفة من جديد.

نفذت التذاكر قبيل العصر. فجال المدير المنتشي في أركان السيرك مُبلغاً العاملين أن اليوم سيبدأ البروجرام مبكرا لإفساح المجال لتكراره ثانية في نفس الليلة. وأبلغ بائع التذاكر أنه يتوجب عليه الآن كتابة التذاكر يدوياً.

نجح العض، والعرض التالي، والذي تلاهما؛ على حس غضنفر الذي لم يعرف أحداً أنه مزيف، والمدرب الجديد، وانتشى العاملون فبدت على الكل روح جديدة أثناء الأداء، إلا سيد الذي لا يتركه الذعر في الحلقة، ولا الضعف خارجها، وغضنفر المستفحل عليه المرض. واتصل المدير بالتليفزين طالبا عمل فيلماً آخر عوضا عن ذاك صاحب النبرة المستعطفة. فيلم يستعرض فيه السيرك قوته وحجم جماهيره. ولما أبلغته القناة أن هذا يعتبر عملاً دعائياً يستوجب التعاقد على دفع مبلغ في المقابل، وافق المدير على شرط تقسيط الأموال.

انتقل السيرك من مدينة إلى أخرى وفاقت أيام عزه الحالية تلك السابقة، تحول عربي إلى نجم شباك بعدما كان ممثل في الظل. وسيد من بطل إلى رجل تقوده إصرارات زوجته التي يبعث إليها بجزء من المال ويبقى معه الجزء الآخر لا علم له بأين يتوجب عليه صرفه، وإغرائات المدير الذي صار يستكفى ببعث رسالة مع سكيرتيرته من خلف مكتبه الجديد الذي ما عاد يفتح، بمظروف يحتوى على الأجر، وسوط عربي الذي كان يتبعه في كثير من الأحيان خارج القفص أيضا. تحول سيد لدمية قليلة الكلام، وفي الليلة التي تماست فيها أسلاك نفسه المنكسرة فحاول الثورة، كانت العواقب وخيمة. كان قد انتهى من عرض جديد، واستقبل اتصالاً من أم مها تسأله عن المال دون أي كلام آخر، وتتشرط أن يزيد من الحصة فهم في حاجة له أكثر منه، فهو ينام ويأكل في السيرك. وعلى كل حال هي أدهى في تدبير الأموال وحفظها. أغلق الخط دون النطق، ونظر فى مرآته مقارنا بين حاله وحال غضنفر فاخلطت الصورتان وظل سيد يبحث عن وجهه الآدمي، بجسده الذي جدّت عليه مشقة الوقوف على اثنتين كباقي البشر. حاول تمزيق الزي الذي التصق به لأشهر وهو يبكى، لكن قوته كانت أهون من قوة مشلول. وكلامه ما عاد مفهوما أو مسموعاً من أحد. خرج متوجها إلى مكتب المدير محاولاً الترجل دون الاستناد بيديه على الأرض، فكان يتكأ على الحائط. حاول الدخول لكن صادف أن عربي كان خارجاً. اصدتم به ومنعه وسائلاً "انت إيه إلى خرجك من مكانك". كان يريد سيد مخاطبة المدير، كان يشير ويقول كلمات قليلة يمكن تفسيرها بعد محاولات. منعه عربي ودفعه عدة مرات حتى الوصول إلى باب الغرفة. حينها قام سيد بشراسة واشتبك مع عربي، لكن اشتبكاته كانت أشبه بتحركات مخلوق نصفه بشري ونصفه قط. يتكلم كلمة ويموء في الأخرى، يدفع بكف ويضرب بالثاني وكأنه مخلب. يركل بقدم ثم ينكمش استعداد للقفز على وجه عربي، الذي لم يتخلّ عن التوليح بالسوط في الهواء محاولاً إخافته، وسط مشاهدة العمال ومطالبتهم بالاستهداء بالله دون تدخل بدني خوفاً من أن تخرج تلويحة الكرباج عن مسارها فتصيبهم. ولما طفح الكيل بعربي أنزل ضربته على ظهر سيد، الذي ما عاد سيداً. ودفعه عدة مرات حتى أجبره على الدخول إلى القفص بجانب غضنفر.

***
 
كانت الحادثة المؤسفة في ليلة تسبق اسبوع إجازة. فلم يصب المدير، الذي لم يخرج من مكتبه وقت الشجار، أي من غضبه على عربي، طالما سيكون سيد جاهزاً وقت الشغل. بدأت تظهر على غضنفر رفيق سيد في منامته علامات تحسن. والعكس على سيد. كان يوضع لكل منه أكله في طبق مختلف. ولكن كلاهما على نفس الأرض المتسخة. شاركه سيد أحاديث ليلية وكان يستقبل من الأسد ردود أفعال كان يترجمها على أنها تفاعل واضح. صارو رفيقين، يأكلوان ويتسامرون، وحتى يلعقون أبدان بعضهم كما تفعل الحيوانات. وفي آخر يوم قبل عودة العمل، فتح الباب في وقت ليس بوقت إطعام، ودخل على الصديقين المدير الذي لم يره أي منهم منذ زمن وفي رفقته سيدة ترتدي عبائة لامعة وتغطى أذرعها وصدرها الحُليّ الذهبية. رنت جرس ذاكرة في رأس سيد المضطرب، قام من مجلسه بضعف بالغ مشمشماً لكن الرائحة كانت جيديدة. انفتح قبو الذاركة بعد عناء وتذكر أن تلك السيدة هي زوجته. ظل ناظراً، وهي تتحدث مع المدير تبلغه أن وسيلة الدفع يجب أن تتغير. فسيد لم يعد قارداً على أي شيء يقدر عليه بشر وأن الأموال له لا قيمة لها، وأنها ستتعامل مع المدير بالشهر، فتأتي هي لتأخذ أجرة نظير تأجير الرجل للسيرك. أظهر المدير وأم مها، التي ظل يناديها بزينب اسمها، نوع من التقارب وكأنهما يعرفان بعضهما منذ زمن، أو كأن زينب لم تكن تتحدث مع سيد وحده من آل السيرك. اختلفا قليلاً على المبلغ المطلوب ولكن وسط ضحكات وقبول مشترك. تحولت نبرة زينب وهي ناظرة إلى القفص وقالت "مستخسر في القرشين" ثم حولت بصرها للمدير وقالت بفحيح "دة أنا مدياك جوزي، شايف أنا لوحدي بقالي قد إيه، تقدر دة بكام بقى". عادت لواجهة القفص بنصف بسمة أنثوية رغم عدم امتلاكها أي من آيات الجمال، ومد المدير إصبعه الخنسر ولامس عن قصد يدها الناعمة، فابتسمت لنجاحها وقالت للرجل القط "وحشتني يا سيد". ذهب المدير وأغلق الباب، ثم دفع بزينب على الكنبة وانكب عليها أمام سيد الذي غرق في تحيونه ظل يلعق ظهر غضنفر.

صباح أول يوم لعودة العرض، وكانت زينب قد قضت الليلى في شقة المدير وعادت معه إلى السيرك. كان سيد مُلقاً بجانب غضنفر يتنفس وكأنه جثة، والأسد الحقيقي يجول في القفص بعد ان استرد عافيته بشكل مُبهر. أحست زينب أن بمرض زوجها ستضيع كل فرص الكسب. فلم يأت فمها المتجهم بأي كلمات. انفرجت أسارير المدير، فهو الآن يملك أسداً حقيقياً ولن يكلفه لا استأجار ولا غيره. لكن عودة غضنفر تعنى عودة شهيته والوقت لم يكن ليسمح لجلب طعام كافى حتى يعود للحلبة الليلة في ظل تبخر سيد المستمر. واتت زينب فكرة، تكون صفقة خروج من السيرك ومربحة أو على الأقل لن تكون خاسرة إن قرر المدير الاستغناء عن خدمات سيد. "تشتري سيد؟" تسائل المدير عمّا يفعل به، فأجابت وكأنه تقول أولم تفهم؟. ضحك الرجل، ونادى عربي وأمره بما يريد، فسحب عربي سيد من قدمه وبدأ في تجهيزه كوليمة كبيرة لغضنفر احتفالاً بعودته.

Popular posts from this blog

الدور العشرين

من الزهور للجذور 4: بميعاد مسبق

على الجانب الآخر