الحيوان

لم يكن كابتن سيد السبع، اقدم أعضاء السيرك، حاضرا في الإجتماع الطارىء الذي قام به المدير. ورغم أن الكابتن هو مدرب الأسد غضنفر الذي تسبب مرضه المفاجيء بأزمة حقيقية لكل العاملين بالسيرك، إلا إنه كان آخر العالمين بأمر المدير لحل الأزمة. مرض غضنفر المفاجىء حل عليه قبل يوم واحد من بدىء العرض الأهم للسيرك في آخر عدد من السنوات. فبعد أن فقد السيرك المتنقل رونقه وسمعته، سواء بسبب تكرار العروض القليلة أصلا، أو بسبب استمرار نقص العارضين على مر الأيام واعتذارهم لأي سبب كان، خاصة لكبر السن، أو بدون أسباب أصلا لمجرد أنه صار موضة اقترنت بزمن فات؛ جائت فرصة محاولة احيائه من جديد بعد أن استقبل المدير هاتفا يعلمه أن قناة تليفزيونية مغمورة تود أن تنتج فيلما وثائقيا عن السيرك وتاريخه الذي لم يعش منه إلا غضنفر وكابتن سيد. بالإضافة إلى عدد قليل من عارضي الأكروبات الصغيرين والمتناوبين بخبراتهم القليلة على السيرك وأهله. وكان مهم جدا أن تصور القناة أحد العروض لا سيما وأن غضنفر سيكون موجودا وهو الأسد الذي انتزع بزئيره ساعات من التصفيق أيام العز. لم يود المدير تأجيل التصوير ولا العرض، خشى ألا تأتي ال

العرض مستمر



11 عاما كاملا ولم يقرر اسماعيل تنفيذ خطته إلا الليلة. استيقظ من نومته عازما ومقررا القرار الذي وقتما طرق رأسه أول مرة كان مجرد فكرة مجنونة أضحكته برثاء على حاله. 11 عام، ولم يقم اسماعيل الممثل المسرحي بدور غير دور بروميثيوس، الذي كان الفرصة التي لم يكن ليحلم بها حينما جائته وهو ممثل يافع، أن يقوم بدور أحد عمالقة الميثولوجيا اليونانية ويقارع زيوس كبير الآلهة في مسرحية مقتبسة من الاسطورة التي أبهرت اسماعيل منذ أن عرف بها.

قام من منامه، وأطال النظر في مرآته على وجهه الذي طبع عليه بروميثيوس ملامحه فبدى الشاب الثلاثيني أكبر سنا من عمره. تأمل وجهه، لحيته الرمادية المدببة وشاربه المقوس وشعر رأسه الذي استدار حول صلعته. نظر متحديا وطاردا كل أفكار التردد والرجوع. ارتدي بدلته الأرجوانية وقميصها الأصفر ورابطة عنقه الزرقاء، تلك الألوان العجيبة التي عرف به بين كل من عروفوه سواء في المسرح أو في الجوار. نظر إلى شكله مجددا في مرآة حمامه، وفي مرآة مدخل الشقة، والعمارة، وعلى انعكاسه في كوب الشاي الذ لم يكمل ارتشافه على المقهة المواجه، وعلى اسطح السيارات وفي زجاج الأتوبيس الناقل له لمقر المسرح. وصل مبكراً عن الكل، حتى تعج رجل الأمن من وصوله واضطر لفتح الأبواب خصيصاً له، وبرر اسماعيل الوجود المبكر بتحضير جيد يجب أن يسبق عرض الليلة، فهو العرض الأهم والليلة الأهم.

دخل غرفته، وجلس أمام المرآة القديمة التي أحاتطها المصابيح، أغلق الستائر والنافذة ليحجب نور الشمس وأضاء مصابيح الغرفة ذات الإنارة الخافتة وقضي وقتا طويلا متمعنا أكثر في وجهه، وما كان أحد أتى إلى المسرح بعد. صفق لنفسه وضحك عندما تخيل نجاح الخطة رأى في اسماعيل بطل أكثر اسطورية من بروميثويس وحتى هرقل، وقام وتجنب النظر لانعكاسه ودار في أرجاء الغرفة مفكرا في البديل والمصير بعد فشل الخطة الموضوعة منذ سنوات لاستراق الأضواء ونيل ما يراه مستحقا له وعملاق الاسطورة. استند على الحائط بظهره وتأمل ما تعلق من ملابس الشخصية ولا ملابس في الغرفة غيرها غير ملابس بروميثيوس. تلك الملابس التي فقدت كل لمعانها ونعموتها كما رأي اسماعيل أنه فقد لمعانه الذي كان وقمتا تسلم مهمة أداء الدور وتحول بعدها لموظف لا أكثر.

أمسك بهاتفه، توتر قليلا قبل الأتصال ولكنه فعل، كانت الأجراس تدق في اذنه مع دقات قلبه وتدق على هاتف دليلة. فتحت الخط وردت كأنها تسأل: اسماعيل؟. فأجابها بحماس بدد القلق بعدما سمع صوتها أخيراً: لازم تيجي المسرح النهاردة، كل حاجة هاتتغير، النهاردة يوم انطلاقتي الحقيقية يا دليلة، أرجوكي تعالي ومش عايز غير انك تحضري مع المشاهدين وبعدها نتكلم، متأكد اننا هنتكلم بعدها ومش هاتمشي.
وكان ردها بزفرة غطتها غشاوة ضحكة لحظية آسية: اسماعيل، انا عارفة العرض، كنت شغالة فيه معاك، فاكر؟ آسفة، ماعتقدش ان الوضع له حل.
-         لأ له، بروميثيوس هيفوز، وهيعيش، وهيحقق كل الي سعى وراه. انا هحقق إلي بروميثيوس سعى وراه. تعالى احضري، أنا وبروميثيوس هنكون الأساطير، مش زيوس، الناس هتسقفلي أنا، أنا الي هيتسجدله والمسرح كله هيترجاني أفضل معاهم بعد ما تجيلي عروض من كل مسارح البلد. تعالي يا دليلة، وهرجعك أثينا، أثينا الحقيقية مش الي قدمتيها قبل كدة، أثينا الحكيمة غلي أحرجت زيوس وكسرت كبرياؤه. تعالي يا دليلة.
انتهت المكالمة بوعد منها بالذهاب لإرضائه فقط. كانت دليلة هي أحد أبطال العرض، واستمرت في أداء دور أثينا لستة أعوام، كانت شابة صغيرة عانت من غيرة الفتيات في المسرح لاتهامهن لها بوجودها هنا لأنها ابنة استاذ راتب المخرج وليس لموهبتها. أبهرت الجميع في كل عرض وكل ليلة، واستحقت الاستمرار لسنوات قسم وقتها فيها بين المسرحية اليوناية ومسرحيات أخريات انهالت عليها عروض تقديمها بعدما دوى دورأثينا في الأصداء. وبسبب تعدد مهامها في المسرح وغيره من المسارح، قرر استاذ راتب استبدالها بفتاة أخرى حتى لا تؤثر على جدول العرض. فكان الجميع يرى أن المسرحية يجب أن تستمر وتعرض كل ليلة بلا توقف. أتت الفتاة الجديدة، ومثلت الدور كل ليلة، لكن ليس باتقان دليلة ولا براعتها، وأستمرت الفتاة الجديدة بلا ترك لأي عرض أو أداء تجريبي أو تدريب، واستمر اسماعيل في أداء دوره بلا تغير ولا توقف، ولم يفكر استاذ راتب في إعادة دليلة، ولما طلب منه اسماعيل عودتها فهي الأنسب وهي من يساعده على الاندماج أكثر، رفض بحجة عدم ولائها لكيان المسرح والمسرحية، وأظهر الأمر وكأنها طردت ولن تعود أبدا لمواجهة اسماعيل على الخشبة، حتى وان كانت ابنته خارج هذا المكان.

بدأت تدخل الأقدام المسرح شيئاً فشيئاً، ودبت في جدرانه الحياة، وظهرت أصوات الولاعات وغلايات المياه وملاعق الشاى والسكر والقهوة والأكواب والنوافذ والأبواب ووقع الأقدام، ثم أصوات الاستعدادات الخلفية والتنظيف، ثم المراجعة وقرائة الأوراق والتجريب، وثم وصول استاذ راتب وجلوسه على كرسيه بانحاء ولا يحرك ساكنا، كل هذا يدور في الخارج واسماعيل في غرفته يفكر في الخطة، ولم يخرج منها إلا نحو الستار قبل وصول أحد ودبدبة الحركة في المسرح، اتجه نحو الستار وأمسك الحبل، وعق عقدة في جانب كل ستارة من الستارتين الجانبيتين، عقدتين كبيرتين لم يؤثرا على وضع الستائر، ثم عاد إلى غرفته، واستقبل بأذنه الأصوات.

بعد وصول الجميع، وقبل بدأ العرض بساعة واحدة، أتى الممثل الشاب القائم بدور زيوس، لم يعرف اسماعيل اسمه، حقيقة  لم يذكر، فكم من زيوس مر على سنواته كبروميثيوس. كان الممثل الأخير ككل من سبقوه، بنية قوية، جسد مفتول، طول شاهق، صوت أجش، حتى المواعيد، كان هناك سرا غريبا في تلك الشخصية التي تجعل كل من يؤديها تتأخر مواعيده شيئاً فشيئاً حتى لا يحضر إلا قبل رفع الستار مباشرة، ولا يؤدي أي مراجعات ولا جلسات للاستذكار أو تحضير، حتى وقت استعداده بالبس والمساحيق والشعر المستعار واللحية لم يعد يطول، فكان يبدأ العرض دوما في موعده وكل شيء على أتم الاستعداد. كانوا يتأخرون جميعاً، دون اعتراض من أحد ولا حتى من استاذ راتب الذي كان ينهر الجميع إلا بطل المسرحية القائم بدور زيوس. كان الأمر عادياً جداً، حتى في نفس اسماعيل قبل أن يقرر تنفيذ الخطة وصار سبب من أسباب الإصرار عليها.

استعد اسماعيل بأقل مجهود، خلع ملابسه واتشح بالزي الإغريقي القديم، واحتلى بالاكسسوارات الذهبية البلاستيكية دون أن يضع على وجهه أي مساحية أو يغير من تصفيفة شعره. استعجله استاذ راتب أكثر من مرة حتى يؤدي أي من المشاهد أمامه للمرة الألف قبل بدأ العرض، كان اسماعيل يسمع ولا يرد، وإن طرق عليه أحد الباب كان يعتذر بحجة بقائه في الحمام إثر امساك قوي ضربه، لكن كل شيء سيكون على ما يرام وسيقام العرض.

بدأت الجماهير تأتي، وكان السؤال الذي يسأله اسماعيل كل يوم دون أجابة، لماذا مستمرة الناس في الحضور حتى بعد كل تلك السنوات ولماذا هناك أشخاص بأعينها لم تفوت عرضا واحدا. أمسك بهاتفه واتصل بدليلة، لم ترد واستعجله من بالخارج كلهم، فحان موعد رفع الستار. اقترب اسماعيل من الخروج بعد أن صمت الجميع وانطفأت الأنوار، اقترب، مقررا مواجهة الجمهور واعطائهم سببا لحضور العرض كل يوم عوضا عن الاستمرار في المجيء دون جديد يعرض.

فتح الستار على المشهد الأول، مشهد اجتماع زيوس ببروميثوس وأخيه ابيميثيوس بعد الحرب الكبرى بين العمالقة والآلهة. كانت الأنوار مازلات منطفأة. بحث اسماعيل بأعينه عن دليلة وكان صعب عليه تحديدها وسط كل الحضور في الظلام. انفتح النور الدائري مركزا على الاجتماع الثابتة أشخاصه كتماثيل الشمع أمام أعمدة الإغريق وفوق قطع السحاب. استغل اسماعيل الثبات وانطلاق صوت الراوية لاعطاء مقدمة قبل بدأ الأحداث، في التمقيق أكثر والبحث بلا شيء سوى عينيه. حكت الراوية عن بروميثيوس وأخيه ابيميثيوس، العملاقين اللذين رفضا الانضمام للعمالقة بقيادة كرونوس في حربه ضد الآلهة بقيادة زيوس، الذي انقلب على والده كرونوس وهدف السيطرة على الكون وحكمه. تنبأ بروميثيوس بهزيمة العمالقة، فكانت الآلهة هي الجيل الجديد، التطور السريع والذكي والخلاق للعمالقة، انسحب من صف القدامى وقرر الانضمام لأهل الأوليمب بهدف اسمراره هو، وأقنع شقيقه فاقتنع. انتهت الحرب، وعاقب زيوس كل العمالقة بالقائهم في حفرة تارتاروس، إلا بروميثيوس وامبيثيوس. بعد انتهاء عصر العمالقة، اجتمع زيوس بالشقيقين وكلفهم مهمة.

أنهت الراوية كلماتها، ومع آخر  كلمة وجد اسماعيل دليلة واقفة في أحد الأركان البعيدة، جميلة، تعتليها نظرة حزن طبيعية بريئة ولدت بها واستمرت معها. كانت مرتدية تنورة صوفية بنية طويلة، وقميص أبيض شمرت أكمامه، رابطة رأس أحاطت بها شعرها، بدت في جمالها وبياضه وبساتطها وكأنها شخصية فقيرة في أحد روايات ديكينز.

انفرجت اسارير اسماعيل، حافظ على هدوئه، سحب نفس عميق واطمأن. بدأ الحوار في المشهد والحركة. رفع زيوس رأسه وحرك ذراعه آمرة بمهمته. كلف بروميثيوس مهمة خلق البشر، وعهد إلى امبيثيوس بتشكيل الحيوانات. استمرت المسرحية بتسلسلها المعتاد المحفوظ للجميع وأولهم دليلة، التي ظلت واقفة غير فاهمة ماذا يحدث ولماذا دعاها اسماعيل. بروميثيوس خلق البشر وأخذ وقتاً في الاهتمام بأجسادهم وجمالهم محبا لما يعمل، فضاعت عليه فرصة اعطائهم القوة البدنية والسرعة والفراء للتدفئة والقرون والأنياب والبصر والسمع الحاديين، فكان امبيثيوس قد انتهى وأخذ كل تلك الموارد ووزعها على الحيوانات.  أشفق بروميثوس على البشر، أشكال وأبدان في غاية الجمال،  لكن بلا معرفة ولا مهارات، ولا شيء إلا الغرائز. أراد بروميثيوس لهم شئ من السماء، انحنى أمام زيوس مستعطفا، لكن كبير الآلهة أبى مستديرا ومعطيا ظهره لانهاء الحوار ، متحججا بأن العلم لن يجلب على البشر إلا الشقاء لهؤلاء الفانيين. لم يقتنع بروميثيوس ولم يهدأ، دار على على سطع الأرض، فما كان للعمالقة أن تسكن الأوليمب، مفكرا في مساعدة البشر، ودار اسماعيل على خشبة المسرح مفكرا في تفصلة الخطة الأخيرة. قرر بروميثيوس سرقة الآلهة، فوهب الانسان العلوم والحرف واللغات وترويض واستأناس الحيوانات، وصنع الفلك والتداوي.

شاهد الجميع ما فعله بروميثيوس كما شاهدت وعاشت دليلة منتظرة، واسماعيل في رأسه ينتظر اللحظة المناسبة. ثار زيوس على بروميثيوس، لكنه اكتفى بتحذيره أمام كل الحضور وعلى رأسهم أثينا، التي اقنعته أن لا لا يفتك به هذه المرة ويعطيه فرصة. أشار إلى العملاق الواقف ناظرا تحت أقدامه وحذره أن يهب أي شيء آخر للبشر وليقتدي بأخيه الأصغر، الذي ترك الحيوانات تهيم في هدوء وتموت في صمت دون عذاب أو ألم لحياة أو وفاة، دون خوف من سلطة أو حكم، دون قلق من مستقبل أو ارتعاب من ماض، دون فقر أو غيرة أو جنون. أومأ العملاق المحب للبشر برأسه خادعا زيوس ومخفيا نيته. تعسعس ليلاً إلى الجبل، وسرق شعلة الأوليمب في صمت، وهب الانسان النار حتى يستنير بها ويستدفئ. واستمر سعيه الصامت وحركاته الخفيفة على خشبة المسرح دون صوت لأقدام تمشي، فسرق احدى صواعق زيوس دون أن يلحظ هيفاستوس الحداد صانع الصواعق والأسلحة اختفاء الصاعقة. توجه إلى الأرض، واعطي بروميثيوس قبس من الصاعقة لأهلها، فتعلموا الطهى والشواء، الذي تصاعدت رائحته إلى قمة جبل الأوليمب، فاستقيظ زيوس عازما على معاقبة بروميثيوس، واستيقظت أثينا متسائلة ماذا يفعل هذا الأبله.

ذهبت أثينا لبروميثيوس، بخطواتها البطيئة وبصوتها الهادئ العميق حذرته، وطلبت منه أن يكف عبثه مع زيوس، فهي لن تنفع محاولاتها دائما في إثنائه. تقدم بروميثيوس من زيوس معتذرا في المحاكمة الجديدة توسطت قبلها أثينا لتهدئة كبير الآلهة. في المشهد الذي فضله اسماعيل دوماً، ترجاه أن يعفو عنه وعن البشر بنظرات نادمة مقابل أن يأتيه بقرابين من لحم البشر. قبل زيوس وارتاح صدرالهة الحكمة. ووافق أن تأتيه العطايا، ضحك بروميثيوس في نفسه، وهبط إلى الأرض وأتى بلحوم حيوانات، قدمها في طاعة فاردة ذراعيه إلى زيوس معلنا ولائه. أخذ زيوس القرابين مخدوعا فبقت النيران عند البشر، فخرج منها سيل الاختراعات والعلوم والتقدم. غضب زيوس وارتبك، فبتلك الطريقة سيتعلم البشر ويطمعون، وينقبلون عليه لحكمو الكون كما انقلب هو على والده.

قرر معاقبة المتسبب في كل تلك الكوابيس، أتى ببروميثيوس ودفعه على الأرض، ركع العملاق أمام أقدام كبير الآلهة وإلهة الحكمة التي فاض بها وامتنعت عن التدخل تماما تاركة كل الأور في يد زيوس، واختفى ابيميثيوس من الصورة بعدما سكن الأرض وعاش بحكمتة مع حيواناته صامتا متجنبا اي عراك. كان اسماعيل جالسا على ركبتيه مستمعا لتاصيل معاقبته، سيقيده زيوس على جبل القوقاز بسلاسل لن يقوى أبدا على فكها، وسيأمر آثون النسر العملاق أن ينهش كبده الذي سينمو مجددا مع كل فجر، ليكون وجبة آثوس اليومية، فتستمر معاناة بروميثيوس إلى الأبد ولا يموت. سيعيش سعيدا وكبده تمضغ في منقار آثوس بما حققه للبشر، وسيعيش مطمأنا بنبؤته التى ملأته إيماناً أن أحد الأبطال سيأتي ويحل سلساله ويفك قيده. هذا الذي حدث قبل آلاف الأعوام، واستمر يحدث ويتكرر كل ليلة، وكان ليحدث الليلة لولا إتيان اللحظة التي انتظرها اسماعيل.

حان الوقت، كتم اسماعيل ابتسامته، شهق في صمت شهقة طويلة وأغمض عينيه لمدة ثم فتحها بقوة وكأنما يطلق منها نورا. نطق زيوس بالحكم لم يكتمل، بروميثيوس قام قومة خاطفة متحدية فاردا جسده وفاتحا ذراعيه ومتقدما خطوات مواجها العالم ومعطيا ظهره لزيوس وأثينا، ومواجها دليلة التي ذهلت واستقامت وقفتها خطوة بعيدة عن الركن الذي ظلت منتظرة عليه طوال العرض. ومثير تعجب كل من بالمسرح بما فيهم استاذ راتب الذي انتظر ليفهم ماذا يحدث حتى يقرر ماذا عليه أن يفعل. هم اسماعيل بالبدأ في كلمته ليسكن همهمات الحضور المتعجبين الذين تناقلت بينهم الكلمات ماذا يحدث، لا ينبغي لبروميثيوس أن يقوم. رفع ذراعيه وفتح صدره. الآن يتغير مصير أهل الأرض، الآن يخرجهم بروميثيوس من قبضة زيوس الذي أعماهم ويطلق سراحهم، فيركضوا كل منهم في طريقه، عوضا عن الصندوق الذيين وضعوا فيه. الآن يتغير مصير اسماعيل، يخرج عن النص بنهاية اسطورية تتورم بها كفوف الحضور تصفيقا، ويجبر الكاتب على تغيير أوراق حياته اليومية، وتأتيه العروض من كل مسرح في العالم فيكون البطل الأقوى والممثل الأوحد الذي لا يشاركه أحد في عرض إلا لخدمته وخدمة دوره. الآن ينتقم اسماعيل من استاذ راتب الذي طرد دليلة ولم يسمح يوم له باعتلاء الخشبة إلا باختباره حتى يكون متأكدا من قدراته كممثل. الآن ينطلق اسماعيل من السجن الذي احتجز بين جدرانه ل11 سنة. الآن، الحين، هو لحظة الميلاد، لحظة الإنفجار.

نطق بالكلمة الأولى، "يا أهل الأرض" ولم ينتظر استاذ راتب أكثر حتى يأمر بإسدال الستار بعصبية وبحركات أذرع مصروعة. ذهب العمال مهرولين لسحب الحبال. تحركت، إلى أن توقفت حين أتى دور العقدة في تأجيل قتل المشهد. توقفت الستائر كما أراد لها اسماعيل أن تتوقف، ساترة كل المسرح، ومفتوحة فقط من المنتصف حتى لا يظهر إلا هو. أعاد كلماته الأولى "يا أهل الأرض، اليوم تتحررون" حتى يسكت همهمات الحضور الذين بدى عليهم عدم الرضى، والذي لم يؤرق اسماعيل مطلقا، فلا داعي للتعجل، واقتربت دليلة المذهولة بجنون ما يحدث خطوة واحدة. سكت الجميع أخيرا، حان وقت التحرير. "حاولت مساعدكتم، وضحيت بنفسي من أجلكم، فلا تعميكم سيطرة زيوس وثوروا في وجهه". بدى التأفف بأصوات مسموعة، وقام أحد الحضور العجائز صائحا في وجه الممثل "انت اتجننت؟ بتهبب إييه؟" فقاطع اسماعيل الجميع المعترض ليكمل كلمته المغيرة للمصائر. خرج بحرف واحد، حرف واحد فقط من فمه، وبعده سمع الجميع دوى أسكت كل صوت في الكون. هوت على رأس بروميثيوس كف زيوس، فانتشر صداها في الكون كله واهتز لها جبل الأوليمب وليس المحكمة فقط. هوت الكف بقوة فسقط اسماعيل في اللحظة وارتطم وجهة في الأرض أمام أهلها. تثبت استاذ راتب صامتا وسكنت ذراعيه عن الحركة، سحبهما عاقدا، وأشار دون كلمة ولا نظرة للعمال أن يعيدوا فتح الستار. استقر الجمهور في أماكنهم رافعين حاجبيهم، لا في ذهول، في إعجاب. وجلس ذلك الرجل مرتاحا في مكانه بين الصفوف.

نظر زيوس إلى البدن الملقى أمامه، وأنفاسه تعاقبت في غضب. أطمأن أنه لن يتحرك، وأطمأن الحضور بعد مرور وقت من الثبات. ظهرت البسمة على الوجوه، وصفقوا بحماس لم يسبق له مثيل واقفين من مجالسهم محيين. واستاذ راتب قفز من على كرسيه صائحا في لقطة في منتهى الندرة "صح كدة، هو دة، هو دة" و لم يستطع اسماعيل رفع رأسه، لكنه حاول ارسال عينيه الغير فاهمة لأي شيء إلى دليلة. حاول أن يسألها ماذا يحدث، حاول أن يقول لها أن الخطة ستنفذ، سيقوم فيضع النهاية الصحيحة، هذه ليست هي النهاية وينبغي لبروميثيوس أن يفوز، الخطة ستنفذ، لكنه لا يستطيع حتى أن يتألم أو يفسر أي شيء، لا يستطيع أن يحرك عضلة بما في ذلك لسانه وفكيه. انفتح النور عن جمهور وقف مصفرا ومصفقا وصائحا ولا يتوقف، جمهور كاد أن يسجد لمن قضى على الخائن. وجد اسماعيل دليلة أخيرا وأرسل إليها تساؤلاته التي لم تصل، فأجابته دليلة بنظرة لوامة في برود، ممتعضة في إحباط، نظرة لم تستمر لأكثر من لحظة، نظرة تبعتها برأس مهتز في ضجر، على جسد دار فخرج وترك القاعة.


انحلت العقدة، واسدل الستار كاملا على أصوات التحيات، وانفتح مجددا ليكشف عن كل فريق العمل الذي دخل واحدا تلو الآخر خلف جثة اسماعيل. الفريق المبتهج بابتسامات واسعة. دخل استاذ راتب مصفقا لزيوس وضمه بقوة كما فعل كل الفريق من قبله. اسدل الستار مجددا، وانفرج ثانية، عن زيوس وحده، فعلت أصوات التصفير والتصفيق أكثر من الجمهور الذي  انحنى كله للرجل.

Popular posts from this blog

الدور العشرين

من الزهور للجذور 4: بميعاد مسبق

على الجانب الآخر