الحيوان

لم يكن كابتن سيد السبع، اقدم أعضاء السيرك، حاضرا في الإجتماع الطارىء الذي قام به المدير. ورغم أن الكابتن هو مدرب الأسد غضنفر الذي تسبب مرضه المفاجيء بأزمة حقيقية لكل العاملين بالسيرك، إلا إنه كان آخر العالمين بأمر المدير لحل الأزمة. مرض غضنفر المفاجىء حل عليه قبل يوم واحد من بدىء العرض الأهم للسيرك في آخر عدد من السنوات. فبعد أن فقد السيرك المتنقل رونقه وسمعته، سواء بسبب تكرار العروض القليلة أصلا، أو بسبب استمرار نقص العارضين على مر الأيام واعتذارهم لأي سبب كان، خاصة لكبر السن، أو بدون أسباب أصلا لمجرد أنه صار موضة اقترنت بزمن فات؛ جائت فرصة محاولة احيائه من جديد بعد أن استقبل المدير هاتفا يعلمه أن قناة تليفزيونية مغمورة تود أن تنتج فيلما وثائقيا عن السيرك وتاريخه الذي لم يعش منه إلا غضنفر وكابتن سيد. بالإضافة إلى عدد قليل من عارضي الأكروبات الصغيرين والمتناوبين بخبراتهم القليلة على السيرك وأهله. وكان مهم جدا أن تصور القناة أحد العروض لا سيما وأن غضنفر سيكون موجودا وهو الأسد الذي انتزع بزئيره ساعات من التصفيق أيام العز. لم يود المدير تأجيل التصوير ولا العرض، خشى ألا تأتي ال

لست كالآخرين

لسبب ما، فشلت محاولتهم معي لإخضاعي لقوانينهم اللا منطقية. أصروا مراراً على تطويع أعمال إضافية لي أو إجباري على القيام بها، كوني -كما يرون وبكل إيمان- أنني عسكري مستجد وهم أقدم؛ فلا مجال إلا إلى طاعتهم. أقدم، فتتحول المهام الموزعة من حمل كذا إلى أمر المستجد بالحمل وحده، من تنظيف كذا إلى الإشراف على نظافة المستجد وحده.

قامت شجارات طفيفة بعد رفضي المستمر التحول لدمية كما قبلوا هم عندما كانوا مستجدين، فظنوا أن تلك هي سنة المكان وهذه هي قوانينه. شجارات استمرت خاصة مع ذاك الشاب الأقدم؛ ذو شعر الأنف الكثيف الأشبه بشارب أشعث لحيوان قارض، ورائحة سترة منفرة للبشر ومشتهاة من الحشرات. بائت محاولاته الضعيفة بالفشل، كانت ضعيفة.. واتضح بعد أيام أن هناك هالة من التقدير كانت تحيط بي في ذلك المكان، حتى من الشاب القبيح. تقدير لدرجتي العلمية الوحيدة بينهم، ولمستوى اجتماعي أيقنت بعد انضمامي للجيش أنه وإن اتسع فهو ضيق، وإن كبر فهو صغير، وباقي العساكر من الطبقة التي، ورغم تملينها، لا تذكر.

في يوم انقطعت المياه عن المعسكر، وبتقدير القدر العجيب، تم حجزي ومنع أجازتي عني لارتكابي خطأ ما في مهمة وكلت إليها. وواتتنا الأخبار بأن عدد من العساكر الجدد، بعد ما مرت شهور لي في المكان، على وشك الوصول. وفوراً بدأ الحديث من الجنود عن كيفية الاستقبال والسبل المثلى لإخضاعهم للأوامر الصادرة من الجنود القدامى. أثار الحديث في نفسي الضيق، فتحدثت مع كبيرهم أمامهم بعدما هدئت بيننا الأوضاع لأشهر. طلبت منه عدم الافتراء على جديد لا يعلم ما له وما عليه. اقتنع واقتنعوا رغم عدم ابدائي أسباب.. وكذا صار الحال بعدما تحولت لمستشار في أحاديث لها معنى قليلة.. وكثيرة لا معنى لها. وكان التعليق عادة "معاك الحق" ثم فيما بينهم عني "العلم حلو برضه".

وصل الجنود كقطط يتامى حديثي الولادة. تعرفوا على عالمهم الجديد. اقتربت من أحدهم وأنا احدثه عن المكان، صدمني وأحرجني بشدة، عندما تأفف من شيء عرفت فوراً أنه رائحة سترتي التي لم تبدل بواحدة أنظف من المنزل، وجسدي الذي لم يجد الماء اللازم لازالة ما أفرز منه وما التصق من العالم الأصفر به.

كان من نصيبي أن ذلك الجندي الجديد هو رفيق في قطاع النظافة. علمته ماذا يجب أن يفعل على أكمل وجه وما يمكن "طلسأته".. وكانت اللية تشهد مباراة كرة قدم.. استأذنته متعجلا في حل محلي في القطاع والقيلم به كاملاً.. الليلة فقط.. حتى لا تفوتني بداية المباراة. قبل برحابة. في الليلة التالية استأذنته أن يحل محلي كوني سأقضي الليل حارساً وأحتاج قسطاً من النوم.. الليلة فقط.. وافق. وفي التي تلتها كان العذر أني سأقف مع السباك لحل مشكلة المياه التي استمرت لخمسة أيام.. الليلة فقط. والتي تلتها أتيت بكوب الشاي وجلست أشاهده يكنس ويمسح وأنا أعدل عليه من موقعي فقط.. بذوق وأدب، كما يليق بشاب متعلم من طبقة مشاكلها المادية ليست في إنتظار المال وتجميعه للإتيان بكيس اللحم البرازيلي..وهو لا سبيل لرأسه إلا استقبال الطلب والنصح المحترم، ولا لأذنه إلا السمه، ولا لجسده إلا الطاعة.

خمسة ليال لم أقبض فيهم على مكنسة أو ممسحة، الجندي الوحيد، رغم أنني -لو كانت الحجة منطقية- لست الأقدم. في الليلة الأولى لعودة المياه إلى مجاريها، قبل حلول موعد النظافة مباشرة، سمعنا صوت الخرير . هرولت إلى الحمام وتركت المستجد يقوم بالعمل وحده كما صار الحال، وتخلصت بالماء الجار من رائحة العرق القديم. بعدما انتهيت، من حلاقة الذقن وغسيل الأسنان وتسريح الشعر القصير والتعطر.. اطلت النظر في المرآة لوجهي المنتعش الجديد.. الذي كان دوما لون بشرته أفتح ومظهرها أنعم من باقي الجنود الكادحين منذ أن رأت أعينهم النور والغبار، ولاحظت فيه ما لم ألاحظ يوماً، شعر أنف كثيف أشبه بشارب أشعث لحيوان قارض. وتشممت رائحة قديمة مكتومة.. لم أعرفها عن بدني قبل خمسة أيام، لم ينجح التحمم في طردها، ولا التعطر في تخبئتها.

Popular posts from this blog

الدور العشرين

من الزهور للجذور 4: بميعاد مسبق

على الجانب الآخر