الحيوان

لم يكن كابتن سيد السبع، اقدم أعضاء السيرك، حاضرا في الإجتماع الطارىء الذي قام به المدير. ورغم أن الكابتن هو مدرب الأسد غضنفر الذي تسبب مرضه المفاجيء بأزمة حقيقية لكل العاملين بالسيرك، إلا إنه كان آخر العالمين بأمر المدير لحل الأزمة. مرض غضنفر المفاجىء حل عليه قبل يوم واحد من بدىء العرض الأهم للسيرك في آخر عدد من السنوات. فبعد أن فقد السيرك المتنقل رونقه وسمعته، سواء بسبب تكرار العروض القليلة أصلا، أو بسبب استمرار نقص العارضين على مر الأيام واعتذارهم لأي سبب كان، خاصة لكبر السن، أو بدون أسباب أصلا لمجرد أنه صار موضة اقترنت بزمن فات؛ جائت فرصة محاولة احيائه من جديد بعد أن استقبل المدير هاتفا يعلمه أن قناة تليفزيونية مغمورة تود أن تنتج فيلما وثائقيا عن السيرك وتاريخه الذي لم يعش منه إلا غضنفر وكابتن سيد. بالإضافة إلى عدد قليل من عارضي الأكروبات الصغيرين والمتناوبين بخبراتهم القليلة على السيرك وأهله. وكان مهم جدا أن تصور القناة أحد العروض لا سيما وأن غضنفر سيكون موجودا وهو الأسد الذي انتزع بزئيره ساعات من التصفيق أيام العز. لم يود المدير تأجيل التصوير ولا العرض، خشى ألا تأتي ال

Escapism

كانت السيجارة الأخيرة.. سحبت منها نفسها الأخير و امتصصت روحها حتى شعرت بسخونة تبغها تلسع شفتاي و بزفارة دخانها تثقب لساني. نظرة شفقة أخيرة تأملت بها حالها الرث بين اصبعيّ، لا يختلف كثيرا عن حالي، قبل نقلها الي مثواها الأخير في مقبرة جماعية انطوى فيها العشرات من رفقائها.. كم أشبهها و اشبههم.

كنت جالسا على الأريكة أو بالأحرى مُلق على قماشها الذي اذكر نعومته القريبة، قبل حلول التصحر و الأضمحلال، و قبل اختراق شظايا نيران السجائر و الفحم في انسجته و أحشائها.. القميص الأبيض مشمر عن السواعد و ربطة العنق السوداء استقرت عقدتها على صدري الثقيل.. خلعتها معلنا انقضاء يوم عمل للنسيان كمئات الأيام مرت لا أذكر كيف بدأت أو انتهت أو سارت.

من مكاني تأملت مكتبتي.. عشرات الكتب في كل ما أحب و أكره.. شهور طوال قضيتها ممزق بين كتب أقرأها في الفلسفة و الأديان و علوم النفس. بدأ الأمر كفضول مراهق يقرأ الروايات العالمية، ثم تطور حتى تخللتها الكتب الفلسفية و العلمية و الدينية صاحبة النظريات السطحية منها و العميقة، و مدى تباعد أو تقارب صفحاتها بواقعى العجيب أحدث داخلي شغف غير مفهوم، ثم اسألة و حيرة و متاهات و بحث عن حقائق.. و انتهى بي المطاف عائشا في حالة شتات عقلي و "مطوحة" ذهنية كباندول ساعة حائر بين كل كلمة قرأت و كل موقف عشت، بين النظريات و المبادئ و الفضائل و العادات و الوقائع.. كم لا يحتمل من اسألة لا تحمل أي اجابة أو تفسير.. كنت  أبحث عن ضالتي في القرائة التي هي أضلتها في الأساس.. و لم أجد فيها إلا مضيفة دروب ظلمة و حفر عتمة لمتاهات عقلي الذي قصدت له الأتساع.. فضاق بي و علي.

العجيب أني لم أكن أعلم ما هي ضالتي.. كان ينقصني شيء أؤمن به.. حقيقة ثابتة أقتنع بها فأرتاح و اعرف معها من أنا.. فقط حقيقة واحدة أراها و ألمسها فيتحدد تشكيل عقلي الذي هو كقطعة شمع على أي قالب تتشكل.. و اذا سخن عليها الصراع تسيح و تفقد أي هيئة أو هوية. حقيقة التاريخ الذي له ألف رواية و رواية تناقض احداها الأخرى و لا تقل روائية عن اساطير شهرزاد لشهرايار.. حقيقة الأحداث التي يشوهها و يمسخّها الاعلام بأبواق تعرت من كل صفات الصدق.. حقيقة النظريات العلمية التي تُدعى في كثير من الأحيان بالحقائق، و التي تتصادم مع معتقدات دينية تتفق و تختلف مع عبارات فلسفية آمن بها البشر لقرون و التي تتحطم بواقع واقعنا و تنفرط على صخرته حبات عقد الحق و الخير و الجمال فيموت كل ما هو مطلق و يصبح كل شيء نسبي.. يا ألهي.. كلما انظر لهذه المكتبة اغرق في تلك الدوامات التي تنتابني كل فترة قصيرة بسبب و بدون، و بالنظر لما تحتويه من كتب تكون النوبة أثقل و أكثر شراسة.

العجيب أيضا، انني مع هذا الكم الهائل من القرائات و الكتابات التي اطلعت عليها و اللغات الثلاث التي اتقنها لم أحظى بعمل يناسب ملكاتي.. فاليوم و بعد 6 أعوام أنا لست أكثر موظف في احدى الشركات الخاصة ذات الطابع الروتيني الحكومي، يعمل لثمان ساعات يوميا و يحظى ما يكفي لشراء الكتب و السجائر بعد ما يقتات ليسقوى على الاستمرار في العمل المميت في ثباته!.. مجرد موظف، لم يرض مهنته و لكنه لم يبحث عن غيرها فارتضاها.. فقط كرس طاقته في البحث عن الحقيقة التي لا يعلمها و لا يعرف عن ماذا ستكون.. و في تحليل أي شيء يراه.

على غير العادة.. حولت نظري و مددت يدي و أمسكت بالريموت ففتحت التلفاز الذي لا يُلمس الا ليزال من على سطحه الغبار.. طبعا لست أنا من يقوم بهذه المهمة. اعلانات اعلانات يتخللها محتوى لأحد البرامج الحوارية "اللتاتاة".. اعلانات عن المنطقة السكنية الأشبه بالجنة حيث الخضرة اللا نهائية و التي فيها سأبدأ يومي في المسبح و انهيه في مجمع الSpa.. البوتوجاز العجيب الذي سيتحول معه العدس الى كباب.. المشروب الذي سيعطيني من الطاقة البدنية و الذهنية ما يجعلني سيدا لهذا العالم و مسيطرا عليه... المنشطات الجنسية التي ستنقل حياتي من الجحيم للفردوس حيث االمتعة الحقيقية و الاستقرار الأبدي.. السيارة التي سأتزوج فتاة احلامي فور اقتنائي اياها.. و اعلان آخر عجيب عن قناع سيغير نظرتي للعوالم و يغير نظرة الدنيا بسكناها عني فور وضعي له على وجهي.. و العديد الغير محصور من الصور الكاذبة لمنتجات رسخ المُعلن انها هي الغاية و الهدف المطلق للبشرية.. و مع شرائك لها ستنفرج كل كرباتك بل و تتحول حياتك لتكون الحلم الذي لم تجرؤ يوما ان تحلم به.. يا له من هراء لم يجدي نفعا الا زرع شعور النقص و النقصان بزغللة الأعين بما هو باهظ الثمن، و غالبا ما يكون رخيص القيمة.

اكتفيت اليوم، حاولت أن أنام..  بحثت أولا عن سيجارة فلم أجد و لم استطع من الارهاق النزول للشراء أو حتى النداء على البواب ليفعل.. في مكاني و على الأريكة.. استلقيت و قبل أن اغمض عيني نظرت للمكتبة اللعينة.. نادتني فلم استطع المقوامة.. ذهبت اليها و أمسكت بكتاب جديد أعلم ان صفحاته ستزيد الثقب الأسود في رأسي اتساعا.. عدت و استلقيت.. تصفحت و قرأت.. حتى خرت قواى و سقط الكتاب على صدر القميص المفتوح.. و استسلمت جفوني المتعبة للنوم فتلامست في سكون.

***

بعد فينجال القهوة و السيجارة الأولى من العلبة الجديدة التى أتاني بها حارس العقار.. نزلت مفضلا درجات السلم -كعادتي- على صندوق المصعد.. توجهت للعمل و على غير المتوقع كانت الطرق ميسرة تكاد تكون فارغة.. في الطريق جذب نظري واحدة من تلك اللوحات الاعلانية الضخمة التي تعتلى العمائر الشاهقة.. ما رأيته هنا قبل اليوم. تأملته و حاولت خفض رأسي بقدر المستطاع حتى أراه من خلال زجاج السيارة.. نظرت اليه للحظات و حادت رأسي مع موقعه.. ما انتبهت للطريق مجددا الا على صوت مطب اصتناعي يصدم اسفل السيارة و يقذف بها في الهواء.

وصلت مبكرا ففضلت تنوال شيء على الدخول مباشرة للمبنى.. جلست على أحد الكافيهات المستقرة في مجمع معروف للمطاعم يطل على الطريق السريع.. انتهيت، سيجارة جديدة بعد الطعام و قبل التوجه للشركة القريبة لا بأس بها، كان لا يزل هناك متسع من الوقت.. حالة الهدوء النسبي التي كنت أعيشها لم تستمر طويلا.. ذهبت مع رؤيتى لحائط عريض على الجانب الآخر من الطريق.. بدأت عادتي السيئة أو بالأحرى مرضي في التحليل و التساؤل.. ماذا يمكن أن يثير حائط أصم من تساؤلات؟!.. هو حائط، لكن لا يراه الجميع كذلك.. قد يراه اللقيط مأوى و العاري ساتر.. سيراه الأسير سجنا و سورا و سيتخيله رسام الجرافيتي أرضا خصبة للوحة.. سيشهده الطموح فاصل هش لما هو ورائه من أرض للأحلام.. و البنّا لن يقول إلا إنه كومة تراب و بضع من قوالب الطوب.

أتاني النادل بالفاتورة، و وضع معها على الترابيزة ورقة اعلانية (فلاير) ذات تصميم مميز و ألوان جذابة. كانت لنفس المنتج الذي كاد ان يتسبب في احداث ضرر بالغ بي و بسيارتي.. يدعى "إسكا" و هو القناع العجيب الذي شاهدت اعلانه المصور أمس من على الأريكة.. و شعار الاعلان "نظرتك للدنيا هتختلف".. نظرتي أنا و ليس نظرة الدنيا لمهرج يرتدي قناع؟.. على أية حال.. تركت الحساب و توجهت لمدينة الزمن البطيء.. الشركة.

ثمانون ساعة مرت حتى انتهى وقت العمل.. تخللتها نظرات كثرت زيارتها الى اعلان "إسكا" الجديد الذي كان يثبته عمال في حجم الأميبا بالنسبة لضخامة اللوحة القابعة فوق العمود المقابل لنافذتي.. إسكا ثانية؟!.. المنتج لا يبدو بتلك التفاهة اذا.. أقصد بالفعل بدا تافه، و لكن ليس بالحد الذي توقعته.. حيث يتضح ان الشركة المنتجة لديها ما يكفى من المال لشن هذه الحملة التجارية المبهرة و التي انتبهت لها على أحد القنوات ذات قيمة سوقية تقدر بالملايين و ليست تلك التى تعلن عن هاتف آي فون بميموري كارد و شريحتين فقط ب120 جينيه زائد مصاريف الشحن.. فمؤكد انها تعلم حجم القناع الذي سيدر عليها أنهار الأموال و بحور الأرباح الذهبية.

اتجهت للسيارة مبتسما بسخرية من هذا الشيء العجيب المضحك المدعو بإسكا.. إسكا؟.. ألم يجدوا اسما أكثر جاذبية؟!

***

"الشك.. هو المرض الذي تسبب فيه المعرفة و يؤدي الى الجنون" - جوستاف فلوبير.

حولت ناصيتي عن الكتاب في سأم و مددت يدي لأخرس الهاتف الذي تسبب في قطع حالة تركيزي العميقة.. قلبته على شاشته و عاودت القرائة. ثانية، صوت اهتزازه المستفز المصاحب لرنته الصاخبة.. لم أجيب و لم أهتم لأعرف من المتصل. ثالثا.. من هذا المتصل السمج؟!!.. هي.. يوووه.
- ألو.
- ألو إيه.. مابتردش ليه
- ماكنتش فاضي.. ماخدتش بالي
- طبعا.. ما هو دة بقى العادي
- عايزة ايه.. بقولك مش فاضي
- بالراحة طب.. مش ناوي تخليني أشوفك

و استمرت المحادثة طويلا بلا أي كلام جديد عن التي قبلها و قبلها و قبلها.. قضيت كثيرا من وقتها إما ناظرا للسقف أو الى شاشة الهاتف متمنيا ان يتوقف عداد الثواني فينتهى الكلام فورا.

كانت جالسة في انتظاري.. و أنا قبل الوصول اليها وقفت مبتعدا أدخن و أتأملها.. تمسك بهاتفها فينعكس نوره على وجهها الأبيض.. هي بكافة المقاييس جميلة حقا.. وجهها الأبيض المتوردة خدوده الممتلأة قليلا و ملامحها الدقيقة المنحوتة أسفل شعر أسود كثيف في تموجاته.. تحرك أصابعها المنمنة على الشاشة و تبتسم فتارة لا يظهر الا نغزتين حفرتا في وجنتيها.. و تارة تتسع البسمة فتفتح المجال لإشعاع بياض من أسنان رُصت بعناية و كمال بالغ. حيائها و هدوئها بينيين و صوتها ناعم عذب و منخفض. لم أكن أتأمل هيأتها.. أو لم يكن هذا هو السبب الرئيسي.. كنت أتسائل في أسى عما الذي تسبب في هذا الفتور الذي انتابني ناحيتها.. برود عجيب أدى الى انني لا أحاول السؤال عنها أو رؤيتها الا على سبيل تأدية الواجب و احترام العشرة. ساعات أشعر أنني بحاجة للحديث معها، لكن نادرا ما تأتي هذه الحالة.. و نادرا أيضا ما أتذكر شعوري بافتقادها.. حقا، لا أشعر أني أريد رؤيتها الا على فترات متباعدة على سبيل الحفاظ على شيء أقتنيه.. و لكن من الأفضل أن يبقى بعيدا. هي نفسها بدأت تسأم من تفضيلي للوحدة على صحبتها و من اختفائي الذي اعتادته لكنها لم تقنع به.. ثارت بيننا العديد و العديد من الشجارات و في نفسها الشكوك.. و في كل مرة لا أجد ما أدفع به عن نفسي فلا أجد ملاذا الا أن أتصنع فقدان أعصابي و التخلي عن هدوئي فأنفجر فيها صياحا مستغلا حبها الصادق لي و ارتباطها القوي بي.. ليس لي أي حق و هي لديها كل الحقوق.

مر وقت ليس بقصير على وقوفي أمامها و هي لا تراني.. توجهت اليها بعدما اتصلت بي.

كان اللقاء عاديا.. مريح لأنه أتى بعد أسبوعين لم ير فيه بعضنا الآخر.. الحديث كلامه معتاد و لكن يتضح في عينيها و حركة جسدها و نبرة صوتها استمتاعها البالغ به.. بعد برهة من الوقت استحست شيئا في.. لم يكن الا الملل الذي بدأ يساورني.. و لكني أحرجت أن اسألها الذهاب.. كانت سعيدة حقا.. و مع زيادة سعادتها كان يزداد شعوري بالذنب. تحمست محاولة اخراجي من هذه الحالة بعد سؤالي عن السبب و اجابتي بأنه "طبعا" لا شيء: غمض عينك.. فتّح.. تاداا.. شكلي حلو؟!. كانت ضحكاتها كطفلة صغيرة في عفويتها تمر بأذني و أنا مُغلق أجفاني.. و تسببت في ابتسامة واضحة على وجهي فيها شيئ طفيف من الحماس.. فتّحت.. ما هذا.. اختفت ابتسامتي ببطئ و حل مكانها تعبير خائب الأمل.. امتعضت متسائلا: ايه دة؟.. أجابت: مش عاجبك.. ثم خلعته من على وجهها و استمرت في الضحك.
- مش مصدق انك جيبتي الهبل دة
- هبل ايه.. دة هيغير حياتي كلها.. (بنبرة ساخرة و ذراعين مفتوحين)
- و كمان ايه الإسم دة؟!.. إسكا.. مستفز
- لااا.. أنت لو عرفت معناه هيعجبك.. شوفتهم كانوا بيتكلموا عنه في التليفزيون على انه اختراع و حاجة كدة ماحصلتش.. و كان في دكتور نفساني بيتكلم و  بيقول معنى الاسم و فايدة الماسك و كدة.

اختراع و دكتور؟!.. ما هذا الاهتمام المبالغ فيه بهذا الشيء الذي نزل علينا لتوه؟.. ثم انتهت هي ب: فكر بقى ايه إسكا دي.. حاجة كدة من الي انت قارفني بيهم و معيش نفسك في جوها.. و كفاية سجاير. مدت يدها و سحبتها من فمي و كنت أهم بإشعالها.
لم تعجبني سخريتها مطلقا -النادرة عامة- من ذوقي.. و لم أحوال حتى التفكير و دخول معها في هذه الفزورة الزهيدة.
هي: ماشي يا عم.. إسكا دي جاية من إيه؟!.. إسكابيزم Escapism.. يعني إيه؟

ماذا؟!.. لم اهتم لأسمع شرحها.. بالطبع أعرف الكلمة التي تعني الحالة الذهنية للهروب "Escape"  من الواقع المرير عن طريق سبل الابتكار و الاستمتاع أو حتى التخيل.. و لكن لماذا يطلق على هذا الشيء هذا الاسم السيكولوجي بعد أن قاموا بتشويهه.. ثم أهذه غايتهم في الابتكار و استحداث الأسماء.. أن يقومون بقصّ الكلا؟!.

***

- ياريت أشوفك تاني قبل ما أموت
- كلميني
- خد دة العب بيه
- شكرا.. خليهولك
القته على كنبة السيارة و أخرجت من حقيبتها نسخة أخرى لا تقل عن الأولى سخافة.. قالت مداعبة: معايا بتاعي. نزلت متجهة الى حيث تقطن و أنا اتابعها متعجبا..كانت تضع خنسرها في ثقب أحد أعين القناع و تديره حول أصبعها.. يا لها من طفلة و يا لي من حيوان.. و لكن بعد هذا اللقاء سيكون تجمعنا مجددا بعد أقل من شهرين أكثر من اللازم.
***
"و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين" اختلفت التفاسير، منها من قال ان اليقين هو الإيمان و الطمأنينة و التصديق و التسليم و السكون حيث الحقيقة الكاملة.. و منها من قال أنه الموت.. ماذا لو لم تحقق السكينة الا بحلول الموت؟
اكتفيت هنا.. وضعت الكتاب جانبا و استبدلته بعلبة السجائر.. كانت المرة الأولى التي اصطحب فيها شيئا أقرأه في عملي.. أكتمل أمام نافذتي اعلان إسكا و تزين.. مبهر حقا.. صورة مجسمة بارزة لوجه يتوسط اللوحة العملاقة، نصفه الأيسر واجم متعب مسودة عينه، باللونين الأبيض و الأسود و خلفيته سوداء.. و النصف الآخر على خلفية بيضاء مضيئة يلون وجهه القناع الذي بدا أثمن بكثير عما ظهر لي حاله أمس.
اتجهت الى الحمام حيث تضييع ما تبقى من دقائق بسيجارة جديدة.. دخل أحد الزملاء المجهولين جدا بالنسبة لي.. بدا و كأنه تفاجئ بوجودي.. كانت خطوته سريعة الى حد ما و تباطأت فجأة عندما رآني.. تصنع غسل يديه في تباطؤ منتظرا خروجي.. ثم تنشيفهما.. تصفيف شعره القصير.. التأكد من هيأة رابطة العنق.. كلها حركات بدت لي غير حقيقية بالمرة، خاصة مع نبضة ظهرت على خديه في تذمر، خانته و هربت من وجهه الذي حاول تهدأته. شعرت باحراج فقتلت السيجارة و مازال كان فيها من الروح ما يحييني.. خرجت و لم أكن عازما اطلاقا على القيام بأي حركة خبيثة.. لكني تشيطنت فجأة و عدت متسائلا في بلاهة وبصوت مسموع لأفكاري: هو أنا سيبت الولاعة هنا؟ّ. لمحته مرتبكا و قد كنت تعمدت عدم النظر اليه مبينا انه ليس في دائرة اهتمامي.. راقبته في المرآة و أنا خارج معتذرا و متعللا ب: يبقى نسيتها عالمكتب.. كان يخرج يمناه من سترة البدلة و يضغط بإبطه الأيسر على شيء خبأه.. كانت تلك هي المرة الأولى التى أرى فيها مستخدما جادا، مجربا و آملا في إسكا.

بدأ اجبار نفسي على عدم الاهتمام يستعصي قليلا.

في ذات اليوم كانت تعاد الحلقة الشارحة للمنتج.. رفعت الصوت و اعتدلت في جلستي على الأريكة المشوهة: و رجعنا لكم مرة تانية عشان نكمل كلامنا مع الاستاذ الدكتور عن.. أممم.. إيييه.. إسكا.. مظبوط كدة يا دكتور؟.. ها ها ها.

أعرف جيدا الضيف.. كان الدكتور أحد الأعضاء البارزين في الحزب الحاكم قبل الحراك الشعبي المضاد لرئيسه و سياسته.. اختفى لفترة مع الاطاحة بالحزب.. طالت فيها عنه الأقاويل و الاتهامات و كثرت، منها من قال بقوة أنه ليس بدكتور ولا هو حاصل على أي درجة علمية و إنما شهادته مضروبة مدفوعة الأجر.. و بعد الهدوء الذي أصاب الشارع بعد أن فرغت طاقته في صراعات ضئيلة ساهم الاعلام في نفخها، أنسته هدف الحراك الأساسي.. عاد الدكتور على الساحة مجددا و لم تقل سطوته أو يضعف نفوذه.. ظهر على نفس الشاشات و صفحات الجرائد التي كانت تنال منه فجأة و بقوة، كشخصية مرموقة في الحياة السياسية.. ثم كمرشح مستقل لعضوية المجلس النيابي.. و أخيرا كمبتكر لذلك القناع العجيب.. لا أحد يعلم في أي تخصص دكتوراته، و لا أحد يسأل. لم يكن طبيبا نفسيا كما فهمتْ هي، تعجبت آنذاك.. كيف لم تتعرف عليه؟.

كان كلامه يتلخص حول تأثير القناع على المستخدم و الناظر معا.. شيء عجيب.. أعني أن من منا لا يرتدي قناعا أو أقنعة يتبادلها؟.. أنا كم مرة تملقت كارها مديري حتى بنطقي كلمة "حضرتك" التي كانت تخرج مني بثقل بالغ و أحيانا مصحوبة بابتسامة بلاستيكية.. حارس العقار الذي أعلم جيدا أنه يراني مجنونا، و لكنه يمدني بشيء من التوقير الذي لا اراه مستحقا أبدا.. ردوري عليها بأسألة مماثلة تتكذب الاهتمام و السؤال.. مقدم البرنامج هذا يبدو جليا عليه عدم التركيز و الفهم لما يقول الدكتور، لكنه يتقنع العكس بحركة رأسه الموافقة المبالغ في تكرارها و كلمتي "أمم.. تمام".. الدكتور نفسه ارتدى رداء الثورة التى اشتعلت هادفة القضاء عليه و على امثاله و تغنى بها و بمحركيها المجهولين.. لكن ردائه كان مثقوبا و بدى قناعه مشقوقا.. فظهرت كلماته فظة شديدة البجاحة و البرود.. حتى في حديثه عن القناع كان اسلوبه غاية في الردائة لا يرقى أن يصنف علميّ أو حتى تجاريّ، فسقطت عنه عبائة اللقب المزيف.

كلنا يحتاج لتغيير جلده لإبهار الناظر أو النطق بما يرضي المستمع و يستسيغه.. حتى اعتاد منا التلون بداع و بدون.. لكن نظراتنا الباطنة ثابتة حقيقية لا تتغير.. هي مستترة لا يتطلع عليها سوانا.. و مع ذلك و مع تناقضها مع ظاهرنا، لا نحاول خلع الأقنعة لأنها مع الوقت التحمت بجلودنا و أصبحت جزئ من نسيجها.. أحيانا نادرة نحتاج أن نتكلم بلسان حالنا الدفين، فنضطر لارتداء اقنعة مؤقتة فوق الاقنعة.. ساترين آرائنا خلف قصة نحكيها، خاطرة نكتبها، أو رسمة عابثة نناثر خطوطها على ورقة قديمة.

***

"When you run and run to catch up with the sun but it's sinking
Racing around to come-up behind you again
The sun is the same in a relative way but you're older
Shorter of breath and one day closer to death" Time - Pink Floyd

إذا فالركض هو ما يعطى معنى لحياتنا القصيرة.. الحياة ركض.. مطاردة و في كثير من الأحيان هروب.
و لأنني ام أكن أحرك ساكنا، اختفت.. و لم الحظ اختفائها الا بعد فترة ليست بقصيرة. انعدم بيننا الكلام و الاتصال تدريجيا و بسرعة.. كانت أيامي في بادئ الأمر طبيعية و كأن شيئا منها لم يسقط، و مع مرورها تسلسل لداخلي شعور بطيء بافتقاد اهتمامها و سؤالها عليّ، المكالمات اليومية و الأحاديث المعتادة، الأطمئنان كيف سار اليوم و كيف كان، المقابلات المتباعدة و.. أيمكن أن أكون افتقدتها هي؟.. بذاتها؟.. لا، لا يعقل.

شعرت بالوحدة التي لم أحمدها و لم أتمناها.. أتصلت بها متوقعا كلمات ستذهب هدرا في العتاب و الصياح و اللوم.. لكنها لم تفعل.. و بهدوء مريب أجبرني على سؤالها "مالك" أكثر من مرة لكن بلا جواب شافي.. اتفقنا على اللقاء لأول مرة منذ شهر مضي.

كالمعتاد كانت في انتظاري. وقفت أنا مبتعدا أتأملها.. مبتعدا جدا، لمسافة لم أتبين من خلالها ملامحها تماما. مسافة عكست ما حل بنا. القيت ذَنَب السيجارة و تقدمت، كان فيّ شيء من التوتر، لا أعرف له سبب.. اقتربت حتى اتضحت تفاصيل وجهها.. لا.. ليست هذه اللعبة السخيفة ثانية.

بعد كلمات هادئة قليلة لا تذكر..
- ممكن تقلعي دة عشان نعرف نتكلم؟
(الابتسامة المتسفزة)
ههممتُ بخلعه عنها.. أمسكت بيدي مانعةً و لم تنطق بكلمة.. ظننتها تداعبني.. مددت الثانية و قد ساورني الامتعاض.. مجددا، منعهتْا هي بقوة و ضيقت قبضتها الناعمة رغم كل شيء عليها هامسة: تؤ!.

لقد أخافتني حينها!.. نظرتُ في دهشة ممزوجة بالقلق.. القناع الأبيض كان يواجهني و يخبئ جمالها خلفه.. طلبت منها مجددا أن تخلعه.. رفضت مطلقة كلمات من الثلج اخترقت رياحها عظام صدري فأثلجته. حاولت تصنع الهدوء بعد يقيني من انعدام فائدة محاولاتي.. فسألتها أسئلة معتادة لا أذكرها.. و هي لم تكن إلا ردة فعل.. لا تسأل، فقط تجيب بكلمة أو اثنين.. ثم يحل علينا الصمت حتى أشقه بسؤال جديد لا معنى له، حتى طال عليّ الوقت.

- الوقت اتأخر عليكي.. مش هتمشي؟
- ok!

سحبت حقيبتها و ذهبت!.. هكذا.. لم تتجه لسيراتي كما اعتدنا، استقلت سيارة أجرة و انطلقت و كأنها انتظرت مني الأمر لتنفذه.. و أنا في مجلسي مشدوها، أنظر حيث كانت تقف منذ لحظات و كأنها لم تذهب.

في اليوم التالي و من على مكتبي في شركة.. بينما كنت أتصفح الجديد من الرسائل الالكترونية كإجراج روتيني قبل بداية اليوم، فوجئت برسالة مبعوثة من مجلس الادارة و بها عدد من القرارات الجديدة بناء على الوضع المالي للشركة الذي هبط منحناه تدريجيا في الأشهر الأخيرة من السنة المالية السابقة. كانت الرسالة تعرض اللائحة الجديدة التي أقرها المجلس بخصوص المكافآت و البدلات و التي أفادت بأنها ستتسبب في خصم ما يقارب 50% من قيمة تلك المبالغ، متعللة في بادئ الرسالة أن تلك التضحية من العاملين ما هي الا مؤقتة و السبيل الوحيد لموازنة العجز إلى أن تعود الشركة الى سابق قوتها المعهودة.. و في منتصف اليوم، اجتمع معي رئيسي في القطاع ليفسر لي الوضع الجديد بعد أن فعل مع عدد من الزملاء منفردا بكل منهم.

 بعد كلمات شائبة لشفافية الصمت:

- ماوعدكش ان الوضع مش هيطول
- مش فارق معايا بصراحة.. مرتبي مكفيني.. بس الاعتراض يا فاندم على الطريقة الي أعلنوا بيها فجأة التغيير.. مانّزلوش فيهم تدريجيا أو أهلونا نفسيا لخبر زي دة.
- معلش.. القرار جه مفاجئ و هم مضطرين.. المهم، في سبب أهم لاجتماعنا.
- ...
- المجلس قرر الاستغناء عن جزء من العاملين.. بعد 3 شهور بالضبط كل قطاع هيتم شكر و مكافئة جزء من الموظفين فيه.. الشهور دي فترة عشان تأهلوا نفسكوا و تحاولوا تشوفوا فرص أحسن برة.. انا بكلمك بوجه عام، لسة ماحددناش مين هيقعد و مين هيمشي.. بس اعمل حسابك ان الوضع مش مضمون.
- وضع ايه حضرتك؟!
- وضعك من الاستمرار في العمل!!
- و السبب؟
- فهمتك ان الشركة بتنفق أكتر من الي بتكسبه، فلازم توازن و تقلل من نفقاتها.. دة قرار مجلس الإدارة.
- هو إسكا ليه علاقة بالموضوع؟
- أفندم؟
كان سؤالي مباغتا جدا!
- إسكا.. القناع.. الماسك.
رد متهكما:
- عارف ان إسكا هو القناع.. الماسك!.. هيكون إيه علاقته بلائحة أقرها مجلس الإدارة؟
أختبأ صوتي و خرج تبريري في خجل:
- أصل التلاتة الي حضرتك اجتمعت معاهم قبلي كانوا زيي.. مش لابسينه، مش مقتنعين بيه.. و أحنا كدة كدة بقينا كام واحد في الشركة كلها.
- لأ طبعا مافيش حاجة زي كدة.. العدد الي الشركة هتستغنى عنه أكبر من رقم الكام واحد دول.. هاتكلم مع كل الموظفين.. سواء لابسينه ولا لأ.. أنا مش فاهم الي بتقوله.. مافيش أي علاقة.
رددت مهزوما:
- أنا آسف.
تركت المكتب محرجا من سذاجة سؤالي المندفع.. و لا أعلم ما الذي وضع إسكا بين قضبان الاتهام في سجن رأسي.


***


ضاقت على الدائرة حتى أحاطتني وحيدا والتصقت حدودها ببنياني.. أصبحت غريبا في ذلك العالم البلاستيكي المقنع. في غضون شهر أو أكثر، انتشر كالنار في الهشيم و تحول مستخدموه من مجربين معدودين في الظلام و الغرف المغلقة الى شعب لا يخفيه و أسس وجوده في حياته حتى أصبح كاللباس ساترا للعورات و العيوب.

أصارت النواصي عورات؟..

في العمل.. في الشارع.. في المقهى.. في العقار.. لا أرى وجوها بشرية.. حتى أنني بين الحين و الآخر تحسست جلدي وجهي أمامهم حتى أتذكر كيف تكون ملامح البشر. أمامهم؟ أصبحت أشك في أنهم يروني من الأساس. حالهم عجيب و لا فرق بين أي منهم و الآخر.. فعلا، لا فرق.. حركات الابدان هادئة على وجوه صلبة البسمات.. هادئة و بطيئة ربما.. اختفت كافة ردود الأفعال الغير راضية أو الممتعضة.. المتحسمة.. الغاضبة.. الفرحة حتى.. لم أعد أرى فيهم أي شيء يشعرني بآدميتهم. أريد أن أصيح بهم جميعا.. أو أصفعهم.

فضلت اليوم الجلوس وحيدا دون دعوتها.. وحيدا وسط كل الأوجه المستنسخة.. نظرت للوحة الكبيرة و قد زينتها الأنوار ليلا و أضائت القناع العملاق، حاولت استشفاف تأثيره القاتل لكل المشاعر.. أصبحت أخشى مرتديه و أتجنبهم.. برودهم مرعب.. و شعور الرضى بكل شيء الذي يسيطر عليهم مخيف.

نظرت الى حيث يثبت الحائط المواجه على جانب الطريق، و قد تحول لونه للون شاحب لا لون له و غطته و انتشرت في فظاظة على سطحه ملصقات دعائية لحملة الدكتور الانتخابية.. لا أعلم ما الذي قبضني حينها و كأنه كان هناك ما يربط بيني و بين بنيان الجدار.. اغتصاب عشرات النسخ من الدكتور الأنيق المبتسم له أحزنني على حاله وهو مكبل لا يقوى نزع الأوراق الرخيصة!.
حالة شرودي انقطعت فورما انتبهت لجسد تقترب خطواته و ينسكب ظله على المنضدة.. انتفضت ملتفا نحو صاحبه الآتي ببطئ دافعا المقعد الذي انطلق منقلبا على ظهره.. لم يكن الا النادل أتى ليحمل ما فرغ من أكواب.. وقف ثابتا محدقا فيّ و أنا مندهشا من فعلتي أتأمله و أتأمل في خجل الأعين الناظرة.. أتأمل الوجوه المتماثلة و النظرات الباردة عديمة المعنى.. المستترة خلف القناع اللعين، حتى النادل كان يرتديه. ابتعدت عني الأعين و اتجهت الى حيث كانت. أنا و النادل محدق كل منا في وجه الآخر.. ظللنا واقفين لا يحرك أي منا ساكنا.. تعمدت الثبات حتى أرى كيف سيتحرك، أردت أن أسمعه يستأذنني، يعتذر، أي شيء.. لكنه لم يفعل، و لولا صوت أنفاسه التى علّاها القناع لظننته حجرا.

ظل كل منا ثابتا على وضعه.. الى أن حاولت استفزازه. تعمدت دفع كوب فسقط و تكسّر.. لم ينظر الينا أحد هذه المرة.. انتظرت أي ردة فعل منه.. لم يكن منه الا ان نظر بايمائة غريبة لم أفهما.. ثم مضى الى حيث كان!. و تركت أنا ما رأيته مناسبا من مال و هربت.

بعد دقائق قضيتها في تسوق روتيني و ابتياع ما يكفي من قوت لمدة أسبوع على الأكثر حتى لا تفسد الأكثرية، تركت السيارة في مكانها المخصص في الجراج تاركا بابها مفتوحا و معلنا للبواب أن يأتي بما فيها  فيتبعني بلكاعته.

تركت باب الشقة مفتوحا أيضا حتى يدخل الحارس -عند وصوله سالما- و يضع ما حمل من حقائب.. عادة لا أغلقه لأنني على علم بأني لو فعلت سأضطر للعودة مجددا لفتحه بعد وصولي لآخر الشقة و استقراري على الأريكة المواجهة للمكتبة.

فتحت التلفاز بعد زمن من المقاطعة منذ أن سيطر الحديث عن "إسكا" و الدكتورعلى كل قنواته، آملا في رؤية الجديد. كانت تبث مباشرة احدى جلسات الدورة الجديدة من المجلس النيابي.

بعد كلمة مطولة ألقاها رئيس المجلس عكست الكاميرات التملل الذي انتاب أوجه بعض الحضور النادرين ذوي البشرات البشرية، قدم الرئيس للسادة النواب العضو الأبرز ليلقى بكلمة بعدما سبق لقبه المعروف بكلمة "السيد". وقف الدكتور من مجلسه مبتسما وسط تصفيق مهيب و حفاوة عظيمة، و بدأ في القاء كلمته:

"السيد الرئيس، حضرات نواب مجلسنا الموقر.. عشان ما أطولش على حضراتكم.. أنا مش هاتكلم النهاردة في قضايا سياسية أو دستورية.. قد يكون حديثي بعيد شوية عن الهدف الأساسي لانعقاد المجلس، بس لسة الدورة في أولها و الجلسات جاية كتير.. هاسخّن معاكوا بكلمتين بس النهاردة و الأيام الجاية نتكلم في الكلام الكبير" قهقه الحضور!
رن جرس الشقة فصحت في الحارس أن يضع الحقائب و يغلق الباب ورائه.

"الموضوع الي هاتكلم فيه لا يقل أهمية أبدا عن أي من المواضيع الحساسة أو الأوضاع الجادة الي بنمر بيها و بتمر بيها بلدنا.. أنا هاتكلم مع حضراتكم عن حاجة وُجدت هنا في بلدنا من حوالي شهرين أو أقل بقليل و بدأت تنتشر بسرعة ملحوظة.. و أنا شايف فعلا كتير من الحضور اصبحوا من مستخدمينها"

كان معظم الحاضرين أوجههم بلاستيكية بالفعل، العجيب أن لا أحد من ذوي البشرة الجلدية القليلين جدا و النادر رؤية أمثالهم في الشارع، بدى عليه أي رفض أو تعجب و كأنه وضع طبيعي.. حتى لاحظت أن غالبيتهم كانت من أعضاء سابقين في حزب الدكتور المنحل أو رجال معروفين بنفوذهم و سطوتهم سواء قبل الحل أو بعد الإحلال.

"أعتقد إني مش محتاج أدافع عن "إسكا" أكثر من كدة.. القناع -أو أحب أسميه بالإختراع- انتشاره هو خير دليل على نجاحه.. ممكن لسة تأثيره على المستوي العام مش واضح للعيان، لكن مع الوقت أؤكد لكم ان النتائج هتكون بتتكلم عن نفسها"
رفعت صوت التلفاز و توجهت لأفرغ ما في الحقائب متسائلا ماذا قد تكون تلك النتائج.

"محتاجين نغير نظرتنا.. نتحلى بشوية إيجابية.. و بنعد عن كل الأصوات المعترضة الي هدفها دفعنا للخلف"

مع تلك الكلمات تحسست يدي في أحد الحقائب جسم غريب لا هو علبة ولا كيس و لم أذكر أني اشتريت شيءا بهذه الهيئة، أخرجته فكان نسخة "إسكا" التي كانت ملقاة سابقا على كرسي السيارة و ربما سقطت تحته فلم ألحظ وجوده منذ زمن. وضعها البواب و كأنه متعمدا استفزازي.. الاستفزاز الذي قلت حدته مع الوقت و تحول ليكون اكتئاب في هوان.. و الرفض الذي تبدل ليصير صراع مع النفس لأخراسها.

"عانينا كتير جدا على مدار السنتين الي فاتوا و تكبدنا خسائر تقدر بعشرات المليارات.. أحد أسباب المعاناة كانت النظرة السلبية الي مسيطرة على قطاع كبير من أولادنا و الي كان بيستغلها أصحاب الفكر الشيطاني و السودوي في التأثير عليهم و تعريض البلد لمشاحنات و نزاعات عمرنا ما عرفناها طوال تاريخنا المجيد"

نظرت في أعين القناع الفارغة و شعرت بقشعريرة تنتاب أصابعي و تنتشر في ذراعيّ ببطئ.

"عندنا مشاكل ماحدش أنكر.. و كان في تقصير في وقت ما من الحكومة في ادارة الأزمات مما أدى لتفاقم الوضع.. بس في نفس الوقت ماينفعش نهدر طاقتنا و طاقة الدولة في صراعات صغيرة.. محتاجين نركز طاقتنا بطريقة ايجابية و عاملة و مؤثرة أكتر من كدة.. و هي دي وظيفة القناع.. أوعدكوا ان مش هيكون فيه اعتراضات من أي نوع.. لأن لو أستخدموه فعلا مش هيلاقوا الي يدفعهم للتذمر حتى و التأثر بحديث الموسوسين.. حتى المشاكل الشخصية ستتلاشى تماما"

وقفت أمام المرآة و بدّلت نظراتي بين صورة وجهي و بين الذي في كفي يشنّج أصابعي و يتذبذب بفعل صوت الدكتور عالي..

"هنقدر نبص على نص الكباية المليان.."

قلبته.. تأملت ظهره المقعر..

"هاندي فرصة لنفسنا نقف على رجلينا.."

سحبت نفس طويل و قربته من وجهي حتى استشعرت ظله..

"هاندي فرصة لبلدنا تقوم طول ما احنا مركزين على الإيجابيات..و حتى بينا و بين نفسنا هنعيش في حالة صفاء و تصالح.."

ضممته اليّ.. أغرقت وجهي في انحنائاته، ثم ثبتُ على وضعي مغطيا اياه براحتيّ..

" ماعنديش حاجة تاني أضيفها سيدي الرئيس.. أتمنى أكون ماطولتش عليكو.. شكرا للسيد رئيس المجلس الموقر.. شكرا للسادة النواب"

تصفيق حاد.

***

هدوء.. لا أجد كلمة خير من هدوء أصف بها حالي بعدها.

 اليوم الأول فقط شابه من التوتر الكثير، كنت أترحك بخطوات مسرعة و أعين لا تواجها إلا رباط حذائي. كان وجهي مقشعرا في أول مرة واجهت فيها عالمهم على أنني واحد منهم.. و كأنه مغطي بحشرة عملاقة ثبتت أرجلها الثمانية على حدوده. قاومت، عسى أن أستشعر تأثيره الساحر.

دخلت مكتبي دون أن أنطق بكلمة أو أطلق نظرة في وجه أحد.. جلست و فتحت بريدي الالكتروني.. كانت حركاتي موتورة و قدمي اليسرى لا تتوقف عن الاهتزاز. أغلقت شاشة ال"لاب توب" منفعلا دون أن أرى ان كان قد جائني جديد أم لا. قمت من مجلسي.. تحركت.. درت حول نفسي.. زفرت بقوة.. مسحت رأسي.. أخرجت كتاب و حاولت القرائة فهرب التركيز و فرت معاني الكلمات.

و لما عدت للمكتب وجدت رسالة دعت جميع العاملين بالقطاع لإجتماع مهم.. كان قد بدأ فعلا و أنا المتأخر الوحيد. كان الرئيس يطمئن الحضور على مستقبلهم بالشركة بعد أن استقرت على الأشخاص الخارجين و حددت ميعاد اخطارهم بآخر الاسبوع.. أي قبل انقضاء مهلة ال3 أشهر بشهرين!.. طرقت رأسي خاطرة تسأل عن ماذا لو لم أئتي اليوم مرتديا "إسكا".. هل كنت لأجتمع وحيدا مع كل هذه الأقنعة؟.. هل كنت لأستمر؟.

كان هذا اليوم أصعبهم، حتى لاحظت انه لا يوجد ثمة فرد تأملني أو حتى انتبه لأي تغير انتابني.. كل في حاله صامتا يتوجه الى حيث سيكون بخطى منتظمة، يقف ليستمع ثم يمضي و يؤدي عمله في هدوء.. عداه، مرت باقي الأيام سلسة، فتدريجيا حل بي تغيير لا أذكر أي من مراحله و كأني لم أعيشها.. تماما كطفل أمسكت بيده السنين فأدخلته باب الصبا ثم أخذت بها الي حدائق العافية و الشباب فأطلقته يجري و يبطش، قبل أن تهدأ من ثورته و تسحبه ببطئ لتُسكنه بدروم الشيخوخة و الكهولة.  تغيير لا ترى أطواره بالعين المجردة، لكن يتضح تأثيره وضوح الشمس الملتهبة بعد مرور الزمن و مقارنة حال اليوم بحالة الأمس.

الحياة الثابتة ما كانت لتؤقرني وتيرتها، ساعات العمل التي كانت البطيئة ما تحسست ثقلها بعده، سأمي السريع و قصر بالي المأرَق تلاشا تماما، ثقل التملق على أنفاسي و انقباض صدري بالنفاق تبخر و ما كنت لأشعر بأي نفاق كنت أرتكبه.. كنت أجزم بأهميته في كثيرمن الأحيان، تنقيبي و تحليلي عن و لكل ما هو صغير و اهتمامي بالتساؤل و التفكير.. كل هؤلاء ذهبوا و ذهبت معهم حاجتي للكتب و ادماني لكلماتها المدمرة و تسلت رأسي عوضا عنها بالتلفاز و الجرائد التي التحفت بأحاديث الدكتور و أصطبغت باطلالاته. حتى الحائط الأصفر، لم أنتبه لاختفائه و تحوله لكومة من الكسر و التراب الا بعد فترة و ما أصابني أي كدر حينها. كل شيء أصبح أسهل، مقبول، و مريح ذهنيا. كل شيء أصبح عادي.. حتى أنا صرت الشخص العادي الذي عشت أرفضه.
أما عنها.. أخذ المسار بيننا الطريق المعتاد بين أي اثنين.. أتفقنا على الزواج بسرعة و بدون مقدمات كثيرة ولا كلمات مترددة أو تشرط و اعتراض. لا أجد كلام الآن أوصف به الوضع حينها ان كان تحسن أم انحرف و خرج عن السيطرة.. فكنت لا أراها مميزة حتى بإسكا.. فقط كانت مناسبة، قد يكون هناك منها الأنسب و الأحب، لكنها كانت مناسبة.. مناسبة و في المتناول و على استعداد.. فلما لا؟

عاشت أيامي الهادئة طويلا، كثرتها و تطابقها صنعا حياة ساكنة.. فاترة، لكنها مريحة.. فقط الى حين.

***

بعد يوم آخر مسالم في سكونه.. أنهيت ساعات عملي راضيا و أتجهت بسيارتي الى حيث أسكن. فتحت الراديو و كان يدار على المحطة أحد البرامج -الشتى- التي تتحدث عن أخبار الدكتور و مشاريعه التي أخذت تنتشر بكافة المجالات و تجري مجرى الدم في البلد.. هو نفسه مع ازدياد نفوذه و اشتداد بينان سلطته أخذ ينسحب شيئا فشيئا من الساحة اللامعة حتى انعدم ظهوره و اختفى صوته الا من على منبر المجلس النيابي حيث التصفيق الحارق للأيادي فور انتهائه من كلمته التي قصر عمرها كثيرا عما سبق.
استمعت الي الكلمات التي أضفت عليه هالة من القدسية و الوقار لم يكن ينعم بهما في الماضي.. قبل أن يغطيه سواد الغموض بعد أن كان لا يكف عن مخاطبة العلن و العيان.. غموض ما أثار في أية فضول!. استمعت و أنا على علم حينها أن الكلام أصبح عنه بحساب الحساب، و تحوُل لقبه من الدكتور الى السيد أضفي عليه مزيدا من الجلال و كأنه -بتلك الجباه التي توشك على أن تخر له سجدا-  الحاكم الفعلي للدولة ولا ينقصه الا أن يُتبع لقب السيد بكلمة الرئيس.

على الطريق و أنا مسرع، قابلتني لوحة إسكا المضيئة بشموخها كعادتها يوميا.. جذبت نظري اليوم أكثر و كأنها زادت بهائا.. أنحرفت رأسي مع موقعها و أنا أتفكر كيف كانت حالتي قبل إسكا الساحر.. كانت نظراتي تعبر عن شيء و كأنه الامتنان. تخيلت أني هدأت من السرعة القدر الكافي، قبل أن أصحو على ذلك المطب يضرب العربة و يلقي بها على جانب الطريق بعد عدد من التموجات فيصدمها بقوة في السور الخراساني. ثبتت السيارة المحطمة مقدمتها تتخلل الدخان في ملاصقة السور، و سكنت عن كل صوت بعد أن ثارت وصرعت و كأنها مسها الشيطان، الا من ذلك الصوت الخارج من الراديو المتكلم عن السيد.

أستشعرت رأسي الثقيلة ألم خفيف بعد الافاقة.. نزلت مترنحا واضعا راحتيّ عليها و كأنني أثبتها في دوختها. كانت السيارات تمر بجانبي مسرعة و تختفي و كأنني شبح لا يُري.. لم يقف أحد ليمد يد المساعدة أو ليطمأن على حال الراكب المُدمرة سيارته، و كأن شيئا لم يكن. وقفت بجانب السيارة و استندت عليها لوقت قصير، أشرت بيدي لعدد من السيارات المنطلقة و لكن بلا جدوى.. لا بأس.

تحركت بخطى صحية و مبرمجة في الوقت ذاته -رغم الحادث- بعد أن أفقت متوجها للعمارة القريبة الى حد ما.. دخلت المنزل و وقف للحظة أطمأن على نفسي و على إسكا في المرآة.. كل شيء على أفضل حال.. كل شيء مثالي. الا ذلك الصداع الضعيف الي بدأ يتخلل جمجتي. وضعت كفي على جبهتي في حركة تلقائية، فاستحس جلدي شيء صغير حاد الملمس، عدت بنظري الى المرآة فلم أر الا جبهة إسكا الناصعة!.. مشيت على موضعه بسبابتي فغارت في فتحة دقيقة خلفتها حدود شق شعرته بقوة.. و في المرآة كل شيء سليم.. ضغطت أكثر حتى آلمني الموضع و خرج أصبعي بملمس لزج، نظرت اليه مباشرة دون المرآة، لم أره أيضا، فأخذت أفركه ببطء مع إبهامي حتى زاد التصاقه.

أيقنت أنني مجروح و لكني لا أرى الجرح، أشعر به و بدمه لكن أعيني محجوبة عن رؤيته.. قررت مستثارا خلع إسكا بعد تردد طويل، لأول مرة منذ أرتدائه لكي أحظى برؤية أوقع. مددت يدي و كنت لا أريد. أمسكت به و حاولت خلعه فلم ينخلع.. حاولت ثانية بقوة أكبر ففشلت.. حاولت اقحام أصابعي بينه و بين جلدي نافسا أنين طاقة اطلقها و ألم أشعرني أن لحم يوجهي سينخلع معه.. لكن بلا فائدة. فقدت أعصابي.. علا صوتي حتى بلغ الصياح..  أخذت أخبط على رأسي و عليه، أسحبه، أدفعه، أحركه.. بلا أمل. نظرت الى المرآة مجددا فكان الوجه الجميل.. كدت أفقد عقلي.. في حالة هيستيريتا.. توقف فكري و أخذت كثور أنطح الحائط محاولا تحطيم القناع. أقذف رأسي فيه بقوة متحملا سندان الألم الذي يهبط على مخي في كل صدمة. شعرت بطعم الدم المنسكب على لساني و بمجراه من منبت شعري حتى ذقني، يجرى أنهارا تهرب من خلف إسكا و لا يقف. صدمات عديدة أجهزت على قواي حتى خرت.. سقطتُ، و سقط بجانبي نصف الوجه الأبيض اللون تحت حمرة الدم.

وقفت فاقد التوازن مستندا على أي صلب حولي.. واجهت المرآة متألما و حاولت فتح عيني المنهكة. كانت الصورة متداخلة الألوان و الأجسام مشوشة الحدود. أعتصرت عيني و فتحتهما مجددا فما رأيت أي ذرة أوضح.. كان النصف الأيسر من وجهي الساقط عنه إسكا، حيث جرت الدماء مجددا فتخللت عيني لتجبرني على اغلاقها. حينها رأيت العالم المثالي يظهر من جديد.. فتحتها مشدوها فكانت الصورة المجهولة!.. وضعت يدي على النصف المجروح فوضحت الألوان و زهت في بهاء و كمال، و كنت الرجل الأنيق السليم صاحب القناع النظيف.. ثم بدلتها على النصف المسكو بإسكا فكان المشهد مرعبا!. الألوان الزاهية اختفت تحت الوسخ المغطي لكل الأسطح.. المرآة اللامعة حالت الطبقة المغطية لها من رؤية أي انعكاس فيها، مسحتها بيدي الأخرى دون ادني انتباه لحجم القذارة المقزز. فرأيتني بلا إسكا و بلا قناع من خلال عيني المجروحة الحقيقية.

واقف أنا مخبأ النصف الملعون بيمناي و متأمل بالنصف الآخر هيأتي في المحيط العفن. بلدتي رثة بالية حال بياض قميصها للبنية.. وجهي عجوز مجعد قبل الأوان بدهر، شاحب ذابل تحت بحور الدم الجارية.. خلفي الحوائط سقطت عنها الطلائات و شق فيها السوس من الجحورالكثير. مشيت كالسكّير بخطى تائهة أنظر الى كل المرايا و أمسك بكل ما هو لامع أتأمل في سطحه وجهي المرعب.. كان آخرهم سكين عريض أطلت النظر في لمعانه الغائب.

ترجلت الى الغرفة الداخلية دون أن أحرك يميني عن تغطيته، رأيت من مدخلها أنعكاس أنوار التلفاز الصامت تضرب الحائط المواجه في الظلام.. دخلت تأملت الحال و الذهول لا يكف عن صفعي. الغرفة كانت كالقبور في لونها الهارب من على محتوياتها و جدرانها، كل شيء فرت منه الحياة و جرت على رفاته الحشرات و الفئران.. حتى مكتبتي، تركتها تُدفن تحت التراب المنهل على أغلفتها. لا شيء ملون، الا صورة السيد في كلمته المعادة إذاعتها من المجلس.

كم مر من وقت و أنا تارك لكتبي؟ كم يوم منذ أن لاحظت شيء شاب سطحه التراب فمسحته؟ كم شهر فات على اختبائي خلف تلك اللعنة؟ منذ متى عشت تاركا أياي و نفسي وراء أسوار هذا القناع؟ لا أعرف.. الوقت مات عندي منذ أبد.

نزلت أهرول كالمومسات معتصرا عيني اليمنى بين أجفاني المنهكة.. و في يسراي السكين. كنت أصيح بالمارة أن يفيقوا و يخلعوا تلك الغشاوة من على أعينهم حتى يروا ما آلت اله الأمور من دمار عفِن بيّن في الشوارع و الطرقات و العالم كله. لم يعيروني أي أهتمام ولا حتى التفات. أمسكت بأحدهم صارخا في وجهه المبتسم، انتظر انتهائي ثم مضى.. تبعته و أدرته لواجهني، حاولت رغما عنه خلع إسكا من على وجهه، لم يبد أي مقاومة و ظل يروح و يجيئ و يترنح مع دفعي و سحبي للقناع الملتصق. لما فشلت، لكمته بقوة.. ذهب بوجهه و عاد بابتسامته.. لكمته مجددا، و ثانية، حتى سقط و تفتت القناع من على وجهه الأصفر.. أمسكت به معتذرا و محاولا مواجهته بصورته على السكين. نظر اليها في تعبير بارد ثم أخذ يجمع فتات إسكا و يعيد تركيبه على جبهته المُغيبة.

حاولت مع غيره عسى أن أجد من يفهم أنهم ليسوا أكثر من دُمى تعيش في عالم أجوف كاذب في بريقه. لكمتهم كارها لكن مع كثرة اللكمات ايقنت انها السبيل الوحيد، فانطلقت قبضتي مطمأنة بعدما كانت ترتجف و تندم. بائت محاولاتي بالفشل بعدما امتصت آخر ما تبقى في من عزم.. كلهم فضلوا نغم الأكاذيب على صراخ الحقيقة.

نظرت نظرة عبد ذليل كاره لسيده الى اللوحة المخترق نورها الغيوم. نظرت للقناع لاعنا له و لسيده الذي أضاعنا في دائرة المغيبين الذين أصبحت أقصى طموحاتهم الاستمرار على قيد الحياة، فماتوا مطاردين هدفهم الغريزي. لاعنا لها و لدعابتها السخيفة و لوجودها و اختفائها المجردين من المعاني و التبريرات. لاعنا لعملي و للتهديد الذي أجبرني على ارتداء القطعة البلاستيكية الخربة. لاعنا الاعلام الذي لمع الشيطان و قدمه في صورة المسيح. لاعنا لكتبي التي أحدثت في من فجوات، لولاها لكان اختيار الاستمرار في ركب العرائس البلاستيكية أسهل و أكثر تفضيلا. اللعنة علي..

حولت عيني على السكين و فتحت الأخرى، ما كنت لأستطيع الاستمرار على سراط فاصل لعالمين متناقضين، كان علي أن أختار.. إما الكذبة العذبة أو الحقيقة المزعجة. نظرت للانعكاس الغير مفهومة هيئته و كان علي أنا أن أحددها. عدلت من وضع السكين فواجهت حده الدقيق.. أغلقت عيني بقوة قابضا حاجبيّ. أمسكتها بكلتا يدي مشبكا أصابعي، و صرخت بقوة قبل أن أطلقها في التي لن تسمع شيء بعد تلك الصيحة.

"شك في كل شيء و أختر طريقك أنت" - بوذا

أحمد فرغلي
9-10-2014

Popular posts from this blog

الدور العشرين

من الزهور للجذور 4: بميعاد مسبق

على الجانب الآخر