الحيوان

لم يكن كابتن سيد السبع، اقدم أعضاء السيرك، حاضرا في الإجتماع الطارىء الذي قام به المدير. ورغم أن الكابتن هو مدرب الأسد غضنفر الذي تسبب مرضه المفاجيء بأزمة حقيقية لكل العاملين بالسيرك، إلا إنه كان آخر العالمين بأمر المدير لحل الأزمة. مرض غضنفر المفاجىء حل عليه قبل يوم واحد من بدىء العرض الأهم للسيرك في آخر عدد من السنوات. فبعد أن فقد السيرك المتنقل رونقه وسمعته، سواء بسبب تكرار العروض القليلة أصلا، أو بسبب استمرار نقص العارضين على مر الأيام واعتذارهم لأي سبب كان، خاصة لكبر السن، أو بدون أسباب أصلا لمجرد أنه صار موضة اقترنت بزمن فات؛ جائت فرصة محاولة احيائه من جديد بعد أن استقبل المدير هاتفا يعلمه أن قناة تليفزيونية مغمورة تود أن تنتج فيلما وثائقيا عن السيرك وتاريخه الذي لم يعش منه إلا غضنفر وكابتن سيد. بالإضافة إلى عدد قليل من عارضي الأكروبات الصغيرين والمتناوبين بخبراتهم القليلة على السيرك وأهله. وكان مهم جدا أن تصور القناة أحد العروض لا سيما وأن غضنفر سيكون موجودا وهو الأسد الذي انتزع بزئيره ساعات من التصفيق أيام العز. لم يود المدير تأجيل التصوير ولا العرض، خشى ألا تأتي ال

أرض الخراء


 

كان مُلقا على الأرض الخربة.. تغطي دمائه الحجارة و الكسر و الحطام.. يأخذ أنفاسه الثقيلة فتنسحب معاها رائحة الدماء و الموتى، محملة بنتن سموم القتلة المنبعثة من أجسادهم. يستمع لأصوات المعركة الضبابة و كأنها تأتيه في حلم و هي واقعيا  تملأ الهواء الأبيض بدخانه حوله من كل جانب.. يستمع الى الخطوات المهرولة هربا و صداها، والتي لأذنه في بطئها كزحف تمساح يتحسس الأرض بيديه الثقيلتين، تطرق آذانه و تدخلها ببطئ كفحيح الأفاعي، خطوات الضباع المتهللة، المغطاة عبائاتهم السوداء بالوسخ، تتقدم منتصرة في حماية نعيق الغربان القبيحة.

 

كانت ترتعش يمناه آبية للهزيمة و انكسار، و تتحرك معها شتلة نبتة أمل أن يزرعها في الباطن الأرض السوداء.. تتحرك أصابعه في هوان شديد و كأنها تبحث عما تستند عليه فتستقيم قامتها و تستكمل خوض المعمعمة رافضة ذل الخسارة و خذلان الخضوع. فبعدما حارب الجميع من ضباع و غربان و عناكب و أفاعي و وطاويط  و بوم وحيدا و رافعا رأسه التي تصلبت و عاندت كل محاولاتهم الغادرة لكسرها، و بعدما صال و جال و دهس و انتصر و صاح و زأر  و ارتقى و ارتفع، كان محال ألّا يغرس شتلته التي خاض كل تلك المآاسي من أجلها، محتضنا و حاميا لها من كل الآيادي الشيطانية الى استهدفتها. لكن ضربات الأقزام المتتالية كانت أكثر و أسرع من أن تتحملها قدماه، تلك الضربات لم تأت من مخلوقات الليل و حسب، بل من مخنثي بشر ظن يوما أنهم شكلوا زمرة أصحابه و رفقاء رحلته التي بدى يوما بر نصرها الأخير قريب. ظلوا يتلفوا واحدا تلو الآخر، مرتدين البسمة الخادعة، وراء ظهره،  يطعنونه بسكين بارد طعنة تلو الأخرى،  حتى ترنح، و لما  سقط على ركبتيه مستندا بكفيه على شقوق الأرض، التف حوله أبناء السواد و رقصوا على جسده الهزيل و هم يتقافزون على ظهره مطلقين ضحكاتهم الإبليسية. فحين سكن، ظنوا أنه مات، و تركوه متهللين.

 

حاول أن يحرك أي من بدنه، لكنه فشل و كأنه أُصيب بشلل النوم فتكتفت عضلاته و خات أوامره. فاستسلم للقيد، حتى يده المرتعشة سكنت عن الحراك، و سكنت خلاياه منصاعة للهزيمة. استشعر صوت أقدام متداخلة تقترب، حاول توجيه رأسه الى المصدر، لكن بلا جدوى.. كان يقترب منه أحد الضباع القاتمين العابرين في زهو النصر، على كتفه غراب و متقدما في مشيته الهيكلية العظمية أحد المخنثين.. دون أن يراهم، سمع خطواتهم تقف، و تخرج من أفواههم ضحكات قميئة و كأنها لشيء يتقيأ. هنا داهم يديه الارتعاش مجددا. اقتربت ضحكة شيئا فشيئا،  فبدأت تضدح في أذنه الأصوات و في أعينه الصور أكثر فأكثر، و يزداد الحراك في كفه أسرع و أقوى.. أمتدت كف عظمية و أخذت تقترب في استهزاء من الشتلة، همت أن تقبض عليها بأظافرها السوداء في تحقير، و لما كادت أن تمسك بها، ازدادت وطأة الارتعاش و كأن يده صعقها البرق، ثم تبعها البدن بحركة أوقفته على أقدامه التى استقامت في ومضة أذهلت أشباح الظلام. نظر الى السماء و أطلق صرخة اندفع لها من فمه دماء كانت تسيل، و اخترق صوتها طبقات الغيوم و بنايات السحب، فخلف فتحة نزل من خلالها نور سماوي مذهب ميزه وحده عن رمادية العالم المحيط. نظر في غضب الى أبناء السفاح، و انطلق فيهم، ملتفحا بالضوء، بكل ما أوتي من قوة و سرعة، جسده أخذ يزداد فلاذية و صلابة مع كل خطوة يخطوها و مع كل لكمة مدمرة لأبدانهم يلكمها، حتى اهتزت الأرض بكسورها و أشلائها تحت أقدامه و انتفضت لخطواته البنايات. قضى على الكثير منهم، و فر الباقين، فتبعهم و نكّل بهم أشد تنكيل، أخذ يمزقهم و يسحقهم، يمسك بعظامهم بكفه العملاقة و يهشمها، يقبض على أبدانهم و يمزقها. يدهس رؤوس الأفاعي و الضباع و يمزق أجنحة الغربان و البوم غير آبه لصرخات استغاثاهم الأخيرة.

 

قضى على الجميع، وقف وسط رفاتهم مُسلط عليه النور، نظر و صدره يتسع بأنفاسه الحارة الغاضبة الى بقاياهم الغارقة في دمائهم السوداء كالزفت في لزوجتها. فتح يده التي عاودها الارتعاش، هدأ قليلا، و أطمأن برؤيته لمعان أوراق النبتة الضعيفة. دفع الأبدان و فتاتها بقدمه موسعا المجال لغرس الجنين، وضعه و راقب منتظرا نموه، بدأت الأوراق تتحرك قليلا و كأنها تتمطأ، تنفس في أريحية ظانا أنها النهاية السعيدة أخيرا، لكن عكس ما توقع و تمنى، بدلا من أن تكبر و تزداد خضارا، أخذت تصغر و تضعف، بدأ يكسوها الأصفرار، فخلعها بعدما طرد الذهول و جرب بقعة أخرى من الأرض في جو أقل كئابة، بعد أن نظفها و نظف حولها، فلم يكن هناك جديد، جرب بقعا أخرى في حالة هيستيرية رافضا للكابوس الذي يشهده، فليس هذا هو المصير بعد كل هذا الخراب، لكنها استمرت في طريق الاضمحلال و الذبول، دمعت عيناه و هو يكاد أن يأخذ بيدها، يراها تموت  في الأرض الرافضة لاعطائها فرصة للحياة، بل و تمدها بسم قاتل يعجل بأجلها، فليس هذا ما قضى عمرا يحارب فيه من أجله، ليس من أجل الهزيمة،.ليس من أجل رفض التربة لنبتته العذراء الخضراء التى حماها بكل ما أوتى من قوة ضد هجمات الليليين و طعناتهم و عضاتهم. خلعها برفق شديد خاشيا ان تتفتت، للمرة الأخيرة، آملا أن تكون مستمرة على قيد الحياة. و انطلق بخطى ثقيلة يسحبها على الفتات، تاركا أرض الخراء خلفه غارقة في سودوية الموت و كآبة الخسران، و باحثا عن أرض جديدة قد يكون فيها من النظافة ما يقبل تلك النطفة، فتحتضنها و تُنشيء منها شجرة تحيا للأبد و يحيى من خيرها الجميع. ذهب ضاممها الى جسده الذي خرت قواه الخارقة، و محاطا بآخر خيوط النور الذي ترك الساحة في ظلمتها الأصلية تحت الغيوم، منيرا الطريق فقط للبذرة و لصاحبها الحزين.

 

أحمد فرغلي

29/11/2014

Popular posts from this blog

الدور العشرين

من الزهور للجذور 4: بميعاد مسبق

على الجانب الآخر