الحيوان

لم يكن كابتن سيد السبع، اقدم أعضاء السيرك، حاضرا في الإجتماع الطارىء الذي قام به المدير. ورغم أن الكابتن هو مدرب الأسد غضنفر الذي تسبب مرضه المفاجيء بأزمة حقيقية لكل العاملين بالسيرك، إلا إنه كان آخر العالمين بأمر المدير لحل الأزمة. مرض غضنفر المفاجىء حل عليه قبل يوم واحد من بدىء العرض الأهم للسيرك في آخر عدد من السنوات. فبعد أن فقد السيرك المتنقل رونقه وسمعته، سواء بسبب تكرار العروض القليلة أصلا، أو بسبب استمرار نقص العارضين على مر الأيام واعتذارهم لأي سبب كان، خاصة لكبر السن، أو بدون أسباب أصلا لمجرد أنه صار موضة اقترنت بزمن فات؛ جائت فرصة محاولة احيائه من جديد بعد أن استقبل المدير هاتفا يعلمه أن قناة تليفزيونية مغمورة تود أن تنتج فيلما وثائقيا عن السيرك وتاريخه الذي لم يعش منه إلا غضنفر وكابتن سيد. بالإضافة إلى عدد قليل من عارضي الأكروبات الصغيرين والمتناوبين بخبراتهم القليلة على السيرك وأهله. وكان مهم جدا أن تصور القناة أحد العروض لا سيما وأن غضنفر سيكون موجودا وهو الأسد الذي انتزع بزئيره ساعات من التصفيق أيام العز. لم يود المدير تأجيل التصوير ولا العرض، خشى ألا تأتي ال

الدور العشرين

صالح، شاب ريفي بسيط في بداية عقده الثالث.. أتى إلى القاهرة كحال الملايين من أبناء قريته و كل القرى بحثا عن فرصة عمل و عيش في المدينة الأحلام كما صورتها لهم أفلام الخمسينات و صور الجرائد. و رغم دخولنا في العقد الثاني من الألفية الثالثة، و تبدل الأمور و ابتعاد القاهرة عن أي وصف قد يقاربها مما كانت عليه قبلا كقطعة من أوروبا. إلا أن هيبة العاصمة ظلت موجودة في وجدان القرويين، لا سيما من حاول منهم السفر للعمل خارج البلاد برمتها و فشل. و مع ازدياد الأحوال في القرى المنبوذة سوئا، صار لا ملاذ لصالح و رفقائه إلا القاهرة.

صالح بملامحه البسيطة و جسده النحيل. لم يجد بمؤهل الدبلوم أي شغل مأمول، فارتضى أن يعمل بين الأكابر و أولاد الأغنياء بشكل مؤقت كعامل مصعد في أحد الأبراج السكنية في المعادي ذات الحرس الخاص و المدخل الرخامي الفاره. عينه صاحب العمارة بعدما أضطر لتغيير المصعد القديم المتهالك، بواحد فضي جديد يشبه كثيرا ذلك الذي يكون في المستشفيات في حجمه الكبير و اتساعه.

كان صالحا لا يجد ما يفعله إلا الضغط على الزر الذي يؤمر به. لا مجال للكلام أو الحديث مع السكان، ما أتته الجرأة أصلا. لا يترك المصعد إلا وقت الغداء و العشاء.. ممنوع الأكل أثناء تأدية عمله الذي يجب أن يظل فيه واقفا.. ممنوع قرائة شيء لأن به شيء من عدم الاحترام للسكان.. ممنوع الاستماع لشيء من مشغل صغير أو محمول لنفس السبب. وجد نفسه في عمل لا يحتاج إلا اصبع و مع ذلك يحرم على باقي أعضائه التصرف بحرية.

ذلك الصمت و الملل دفعه للتركيز لاإراديا مع السكان و التعرف عليهم من أول يوم، قبل أن يعرف أسمائهم فيما بعد. الاستاذ عدلي الأنيق ساكن الدور التاسع، أربعيني أعزب دائما في عجلة و دائما ما يتحدث في هاتفه بالانجليزية التي لصالح فكرة ضئيلة عنها. لا يسمعه صالح ينطق كلاما مفهوما إلا حينما يأمره فور دخوله قائلا "الدور التاسع" و التي ظل يقولها دوما حتى بعد اعتياد صالح و تعرفه على الاستاذ عدلي و دور سكنه. الاستاذة نسمة، شابة حديثة الزواج، و رغم ذلك إلا إنها دائمة الشجار مع زوجها الذي لا يسكن في نفس العقار، هي هنا بعد شجار جديد في شقتها الخاصة بصحبة أحدى صديقاتها التي تلازمها دوما طال ما هي هنا بشقة المعادي. لا تكف عن السباب أو وصف زوجها الدكتور وليد بأبشع الوصف، و تتحدث مع صديقتها عن أدق التفاصيل و أكثرها خصوصية أمام صالح الصامت دون أن تأبه لوجوده فتخفض قليلا من صوتها المسموع الذي لا يتوقف. الباشمهندس علي، طالب في كلية الهندسة بأحد الجامعات الخاصة رغم الواضح من تخطيه سن التخرج. يعيش في شقته بالدور الرابع عشر وحيدا كحال الكثيرين هنا بعدما سافر أبويه المحاضرين الجامعيين إلى ولاية نيفادا بأمريكا لقضاء وقتا مع ابنهما المجنس القاطن هناك و زوجته الأمريكية و أبنائه. لا يعيش تماما وحده، فهناك فتاة تدعى رنيم دوما ما تتردد عليه حتى أصبحت كأحد السكان، تمر الأسابيع و لا مبيت لها إلا عنده. لا يتوقفان عن الضحك و المداعبة أمام أعين صالح المجبر على غضها و لكن بصورة لا تعكس تجنبه للنظر بطريقة قد لا يقبلاها. سواء كانا نازلين في المساء مستفيقين، أو عائدين صباحا بعد استيقاظ صالح و في كثير من الأحيان يكونان سكارى.

و من من شد انتباه صالح من الساكنين الأكابر هو العقيد عامر الطوخي و حرمه، دوما ما يدخلان المصعد بصحبة أبنائهما و لا يتفوه أي منهم بكلمة. أسرة صامتة، لا يُحدث منهم صوتا إلا أصغر الأبناء و هو ممسكا بطائرة يتلاعب بها قائلا "فووووو".. و فور ما يدخل المصعد سواء نازلين أو عائدين يقوم بتوجيه طائرته نحو لوحة الأزرار محذرا بالانجليزية "we're crashing" فتسبق بكارثتها و استغاثات الطفل اصبع صالح و تصتدم بالمفتاح المؤدي لدورهم.

و سيدة أخيرة، كانت تدعى جاكلين.. عجوز وحيدة أيضا في الدور العشرين، نادرا ما تخرج من منزلها و لا تفعل إلا عندما يكون ابنها الوحيد منتظرا لها أمام العقار، إما للذهاب للدكتور أو لأخذه لتقضي معه عدد من الأيام القلائل و مع زوجته و أحفادها. و نظرا لتقدم سنها كانت تستدعى صالح في الانتركم ليساعدها على التوجه للمصعد و يحمل لها كرسيها الذي ستجلس عليه طوال الرحلة. و كان دوما ما يجدها متأنقة و شعرها مصفف بتسريحته القصيرة بعناية، حتى أنه سمع يوما أحد الحرس يقول أنه كانت بنتا لأحد البشوات قبل الثورة العسكرية.. و رغم ذلك كانت بسيطة في كلامها تلقائية في أفعالها.

اعتاد صالح الوحدة في عمله، لا حديث إلا قليلا مع الحرس عندما يحين وقت الطعام اللذين هم كجماعة مؤلفة من أربع أقرب لبعضهم البعض بحكم ظروف عملهم التي لا تفرقهم. فكان يجلس مستمعا لأحاديثهم نادر الكلام إلا ان سأله أحدهم عن حاله فيجيب بالحمد. تماما كما كان حاله مع السكان. لم يجد صالح من يصادقهم إلا عمال توصيل الطلبات، و لم يشعر بجدوته كعامل مصعد إلا حينما كان يأتي أحد الموصلين فيسأله صالح "الدور الكام؟.. عند الاستاذ فلان؟.. طيب، شقة كذا في آخر الدور.. هتلاقيها على إيدك اليمين". هذا قبل أن يعتاد الموصلين العناوين بالتفصيل حتى باب الشقة، حتى أن صالح كان يعلم أين سيذهب كل منهم، فكان يضغط الزر أوتوماتيكيا و استبدل أحاديث العمل الرسمية من سؤال عن أي دور أو وصف، بالتسامر مع أصدقائه لمدة لا تتعدى الثوان، و عادة يكون الكلام نميمة صارخة في حق من ستصل إلى منزله الطلبات، و ينتهي ب"مالناش دعوة.. ربنا يغفر للجميع". و حتى الست جاكلين و التي بدت الوحيدة من الساكنين التي تعرف اسمه و تلحظ وجوده أو حتى تحتاجه، يختفي تماما من عينيها عندما يدخلان المصعد، عكس ما يكون الحال في الطريق إليه، فهي تسأله عن حاله و عن عمره و أهله و بلدته و مؤهله الدراسي و ان كان مرتبطا أم لا، و فور ما تدخل و تجلس تستعمل بخاخة الربو بمجهود شهيق شاق، و تصمت إلى يستلمها منه أحد الحرس ليوصلها إلى السيارة.. و حين ترى صالح مجددا تعيد نفس الأسألة و بنفس التتيب و الابتسامة الأمومية.

اعتاد صالح العيشة بين الجدران الفضية و صافرة الوصول.. حتى أنه تكيف عليها دون شكوى أو ضجر. عين نفسه دون أن يدري عضوا في كل بيت و رفيقا لكل راكب لمعرفته بالسكان و قصصهم و ما يدور بحياتهم.  كان يبتسم عندما يراهم سعداء أو يسمع خبرا جيدا على لسان اللذين لا يروه. و يقول في سره "لا حول ولا قوة إلا بالله" إن كانت أحاديثهم لا تخرج عن سرور أو وجوههم لا تنم عن استبشار. كانت هيئات السكان ثابتة و أحاديثهم نادرة التغير، إلا أن صالح كان دوما ما يجد فيها سلوانا و شيء من الإثارة حينا.. فصار يركز بأذن مصغية لما يقولون بعدما كان يتجنب ذلك. إلا عن الاستاذ عدلي، الذي مع انفعالاته، صيحاته الغاضبة أو ضحكاته العالية كان مستحيلا أن يسعف صالح ما تعلمه من الانجليزية أن يفهم ما القصة وراء تلك ردود الأفعال و التعابير.. فكان يكتم ضحكة تدغدغ داخله فيما يرى من عدلى المرتاح ماديا من جنون، خاصة عندما يهدأ فجأة و يقول الكلمة الوحيدة المفهومة بوجه مصمت "الدور التاسع".

و صارت بالأخص كلمات الاستاذة نسمة التي تغيب حينا في بيت زوجها و تعود إلى هنا بصحبة صديقتها بحكاوى شخصية جديدة أو مكررة، و مداعبات الباشمهندس على مع صاحبته رنيم تثر في نفسه فجوة فضول أوسع فتتسع عيناه و هي ناظرة للأرض و تنفتح أذنيه لتجذب إليها المزيد و المزيد. و كلما ذهبوا ود لو تبعهم لما يجد من لذة في الاستماع.

استمر عمله في المبنى العملاق لأشهر نجح فيها في حفظ شيء من المال و "تحويش" القليل. بعدما ينفق ما بالكاد يكفيه لقوته و حلاقة ذقنه كل يوم و يوم. راض إلى حد ما و لكن لا يجد فرصة للخروج و البحث عن عمل أفضل، كلما كان يطلب من صاحب القعار كان يسأله بسماجة "زهقت مننا و لا إيه؟.. طب اصبر شوية لحد ما نلاقي حد مكانك.. خلص شغل و بعدين روح شوف اللي انت عاوزه" و لا يدري صالح ما هو نوع الشغل الذي يجب أن ينتهي منه.

ذات يوم و بعدما عادت الست جاكلين من بيت ابنها، و بدت مهمومة و أكثر عجزا. دخلت المصعد و جلست على كرسيها. انتظر صالح أن تسأله ما تسأل دوما ليجيب ببسمة صادقة و بنبرة من يقول نفس الأجوبة دوما. إلا انها سألته حينها سؤالا مختلف و لأول مرة تحادثه في المصعد.. "يرضيك إلي بيعمله إدوارد إبني يا صالح؟" نظر إليها فوجد وجهها حزينة كطفلة ينحني فمها و هي على وشك البكاء. و دون أن ينتظر رد "ينفع كدة؟.. يعني أنا بعد ما أربي و أكبر و أعلم، ماشوفش وشه غير كل فين و فين؟.. و يوديني للدكتور يكون متضايق عشان مستعجل وراه مش عارفة إيه.. يوديني بيته يفضل هو و مراته يتكلموا في حاجات مش فاهماها ولا كأني وسطيهم، و لا حد فيهم يقولي كلمة و لا يسألني عاملة إيه يا ماما. و يدخلني الأوضة يفتحلي التليفزيون و يسيبني، ولا حد فيهم يفكر يناولني كباية مياة و لا يسألني عن معاد الدواء عشان يفكرني.. و لما ولاده يجوا من المدرسة و بيتنتطوا حوليا فرحانين إن نناه جت، مامتهم تقولهم خشوا البسوا، يلا الغداء، مافيش كلام على الأكل، يلا الواجب، معاد نومكوا جه.. إيه قلة الأدب دي.. يعني أنا ماليش حق أقعد مع ولاد ابني شوية" وصل المصعد لدورها و بدى أنها في بداية حديث طويل. و لما حاول صالح إيقافها قالت له "لأ استنى استنى.. هي نسمة هنا؟.. البنت الجميلة دي إلى في الحداشر" أجاب بالإيجاب و بأنها لم تخرج اليوم. "طب كويس.. نزلني ليها عشان عايزاها في حاجة" تبسمت قائلة "اعذرني، مش هعرف أقولها لك دي" و عادت لحديثها عن ادوارد.

"و ربنا يشهد على كلامي يا صالح.. أنا ما قصرت معاه في حاجة. من ساعة ما أبوه اتوفى و انا مقضية عمري كله عشانه.. أودي المدرسة و أجيب و أودي النادي، و أدفع في فلوس، و دكاترة و موبايلات و مصاريف جامعة و جواز و عربية و أنزل ألف على شبكة، و احسب معاه إيه هيتكلف كام و انهي الأحسن.. مافيش حاجة في حياته إلا و لجألي فيها.. يقوم أول ما يبعد كدة يستقل و مايعرفنيش حتي أنه اترقى في البنك؟.. استنى، هي صاحبة نسمة دي معاها.. فعلا؟.. طب خلاص طلعني، مش بقبلها البنت دي.. صدقني يا الصالح زي ما بقولك.. عرفت انه اترقى لما شوفت صورته و شهادة التقدير جنب التليفزيون، ما عرفتش انها شهادة أصلا غير لما الواد منير السوسة جه قال لي.. مستخسر في أمه فرحتها بيه.. قليل الأدب".. "معلش يا ست الكل، هو مالوش غيرك برضه" اشاحت بيدها دون أن تجيب بعد ان تحولت هيئة الحزن إلى عدم مبالاة مصتنعة.

وصلوا إلى دورها العشرين، و قبل أن يحاول امساك يدها مجددا.. سألته أي من تلك الأزرار ما يبقى الباب مفتوحا، فأشار. ضغطت عليه "أنا مش داخلة البيت.. امسك المفتاح، هتلاقى الكرسي أبو عجل وراء الباب، هاته و تعالى.. أنا ضاغطة على الزرار أهو." ذهب صالح متعجبا و لا يدري أين ستذهب و لا من سيوصلها. عاد بالكرسي و لكنه وجد الباب يُغلق و الست جاكلين تنادي "يا صالح". قبل أن تشير الأرقام إلى هبوط المصعد. تأبط الكرسي الملوم و هرول على الدرج مرعوبا.. ماذا لو رآه أحد السكان أو مالك العقار، و ماذا لو دخل أحدهم و لم يجده. توقف المصعد في الدور الرابع عشر و تبعه صالح من على السلم، فوجد الباشمهندس علي و الاستاذة رنيم يدخلان محتضنان. تبعهم متوترا ناظرا في الأرض و تنحنح، كأنه يدخل عليهم غرفة نومهم. فوجد جاكلين على كرسيها تتبعهم بنظرها دون حرج، ثم التفت لصالح "جيت يا ابني آخد البخاخة قام الباب قفل.. مفكراه يتداس دوسة شديدة و خلاص.. مش افضل زقاه.. دة حتى صباعي وجعني".

اختلس صالح نظرة على الحبيبين، فوجدها تطبع قبلة حذرة ساكنة على خد حبيبها.. قبل أن تنظر لصالح و تلحظ تركيزه معهم. ضكحت، و انتفض صالح مُرجعا رأسه لموقعها مواجها للأرض ممسكا بالكرسي أبو عجل. مصمصت جاكلين شفتيها في تعجب و قالت بتلقائة "مافيش خشا" فأطلقت مزيدا من ضحكات الباشمهندس علي و الاستاذة رنيم.

وصلوا أخيرا للدور الأرضي دون أن تغير الست جاكلين رأيها في التوجه لآخر.. وجدوا الاستاذ عدلي منتظرا بمحموله و انفعالاته المسرحية. توقع صالح أن يصب عليه جام غضبه لو كان هنا منذ وقتا و تأخر عليه المصعد، لكنه دخل بسرعة حتى قبل خروج الراكبين قائلا "الدور التساع". خرج الباشمهندس علي و الاستاذة رنيم و بقي صالح و الست جاكلين. الذي لم يجد إلا أن يضغت على الرقم تسعة. سألت جاكلين "مودينا فين.. أنا دخت من الطلوع و النزول". فأجاب "معلش هوصل الأستاذ عدلي الأول عشان أعرف أنزلك براحتك."

في طريقهما للنزول عادت لحديثها عن ادوارد "تخيل يا صالح، بيقولي انت قاعدة لوحدك يا ماما و محتاجة حد يهتم بيكي.. طب ما تيجي تقعد معايا يا اخويا انت و مراتك أو حتى اطلع بص عليا شوف عايزة حاجة بدل ما بتيجي تاخدني من تحت.. طلع إيه بقى؟.. عايز يوديني دار مسنين!". وصلا للأرضي مجددا، فوجدا العقيد عامر الطوخي و أسرته متأهبين للصعود بصمتهم الدائم و طائرة ابنهم الصغير. تبسمت الست جاكلين و نظرت لصالح "طلّعهم دة فيها اسبوع على ما أقوم، مش هايستنوا هم".

دخلوا، و الطفل بطائرته "فووووو" متوجهة نحو الزر صاحب الرقم 7. "يا واد حاسب عيني" حذرت جاكلين، و أمسكته أمه بقوة ألمته، و أبوه اكتفى بنظرة باردة لا معنى لها و لا  طعم. "أقول لك يا صالح؟.. طلعني البيت، أنا بطني وجعتني من الطلوع و النزول..  كنت ناوية أروح لجيهان في العمارة اللي جنبينا بس خلاص مش قادرة". و في طريقهم ثانية للعشرين بكت الست جاكلين فجأة "تخيل يا صالح، يقول لي بعد كل دة أروح دار مسنين.. مش هاين عليه حتى يخدمني هو.. طب و المسيح أنا مش عايزة خدمة، أنا اللي باقي من صحتي مكفيني.. أنا كل الي كان نفسي انه و ولاده يبقوا حوليا..مستخسر فيا دة؟ طب لو روحت الدار هشوفهم كل قد إيه بقى؟.. إذا كان هنا و بنا ربع ساعة بشوفه مرة كل اسبوعين و مابلحقش اتهنى.." تأثر صالح لقصتها التي ما كان يراها إلا في الأفلام من أبناء جاحدين، و وجد فيها مادة دسمة يحكيها لمحمود عامل دليفيري الصيدلية الأقرب له من الباقين.

حبت يوم الست جاكلين أن تطلب صالح لكن الانتركوم كان معطلا.. فخرجت من منزلها و نادت بصوت عتيق "يا صالح.. واد يا صالح". رغم أن و اد يا صالح كانت تؤرقه لأنه لم يعد صبيا، إلا أنها كانت تروقه إن قيلت من الست جاكلين. سمعها، نزلا و هو حاملا لكرسيها أبو عجل، قالت له أنها ذاهبة لجيهان اليوم فهي "زهقانة". طلبت من صالح أن يوصلها بالكرسي إلى عمارة مجاورة. اعتذر خوفا من صاحب العقار لو عرف أو لو أبلغه أحد، قالت "قل له دي أوامر الست جاكلين.. دة عيل هيمشي كلامه عليّا؟.. يلا يلا، عشان تلحق ترجع.. تيجي تاخدني الساعة 8". و طوال الطريق لم تكف عن الشكوى من ادوارد.

عاد صالح فوجد أحد الحرس يخبره بطلب صاحب العمارة له.. صعد صالح لشقته منتظرا عقابه. صاح فيه الرجل و اتهمه بعدم الالتزام، و زاد افترائا أن كل السكان تشتكي منه و من سلوكه و تطفله. و اختتم وصلة السب و الوعيد و بخصم اسبوع منه بحجة تركه لعمله دون اذن. و فور ما انتهي و أمره بالانصراف، قال صالح مكسورا "طب استأذن حضرتك أروح أجيبها الساعة 8؟.. عشان صعب تيجي لوحدها". أجاب المالك "هبعت حد من السيكيوريتي، ماتتحركش انت من الاسانسير."

انتظر صالح محمود يحكي له و يفضفض، و لكن الدقيقة التي يقضيها مقسومة بين صعود و نزول لا تكفي، و لا مجال للمقابلة خارجا، فهو يخشى حتى الاستأذان بعدما سمع من المالك. لم يجلس معه صالح إلا مرات قلائل و لكنه وجد فيه ما يريحه للانطلاق بحديثه و شوقه لسماع ما عنده.. كانت تأخذ القصة الواحدة بينهم أياما و تقال متقطعة على مرات، ففكر صالح كيف سيرتبها و من أين يبدأ حيث الأهم. لكن محمود على غير العادة تأخر و مر اسبوع دون ان يظهر، و كأن كل السكان صاروا غير محتاجين لأي منتج طبي.

كذا حكايات الست جاكلين.. صارت متقطعة متباعدة، لكنها و للعجب كانت دسمة رغم قلة الوقت. تتكلم مع صالح و تحكي له دون توقف، فقط في المصعد أو في الطريق منه و إليه. أحبها صالح، و ود لو خرج بها يوما يدفعها بكرسيها في ليلة. عكس حال الجميع، التي كانت أيامهم نسخ و كلماتهم محاكية لبعضها الآخر، دون وجود لصالح بينهم أو بين أعينهم.

كان كل شيء طبيعي، روتيني إن دق التعبير، إلى أن جاء ذلك اليوم  حين انقطع التيار. حدث أن دخل العقيد و حرمه -التي لم يعرف صالح اسمها قط- و الأولاد المصعد، و بدى جليا من التجهم أن عراك توقف لتوه لخروجهم من المنزل أو انتهى. بدت الوجوه مرعوبة إلا وجه العقيد عامر الطوخي الذي ظهر كما العادة مُقفل الحاجبين، حتى ابنه توقفت طائرته عن التحليق، كان يمسكها من ذيلها و كأنها تسقط ببوزها في الأرض. دخلوا المصعد و قبل أن يضغط صالح سبقه الولد الصامت بالطائرة الميتة دون أن ينظر للوحة. انقطع التيار، و توقف المصعد و أظلم و هو في الطريق، صرخت الزوجة صرخة سريعة قصيرة العمر، و استمر صراخ و بكاء الأطفال وقتا إلى أن صاح بهم أبوهم "بس اسكتوا.. ماسمعش صوت!".. و استغاث صالح بصوت بالكاد يسمع "بسم الله الرحمن الرحيم".

تكلم العقيد في محموله و طلب من أحد الحرس فتح المولد بعد أن نهره و سبه و سب أهله. أخبره فرد الأمن أن المولد طاقته غير كافية لإعمال المصعد و أنه لا يكفي لأكثر من إنارة المدخل و الأدوار من الخارج، فانصبت على رأسه جلدات جديدة من اللعنات هو و زملائه.

سمعوا صوت سقطة و سط أنات الأطفال و استغاثات صالح السرية. في اللحظة التى عاد فيها التيار ليتبينوها حرم العقيد. تحرك المصعد و وصلوا، حاول العقيد حمل زوجه و تطوع صالح للمساعدة. أخرجوها و أجلسوها على كرسي أتاه أحد الحرس. في الوقت الذي دخل فيه العقار الاستاذ عدلي و الاستاذة نسمة و صديقتها. ترك صالح التجمع فورا و هرول للمصعد حتى لا يعرض نفسه لأي مسائلة إن لم يجده أحد. دخلوا الأربعة، الاستاذ عدلي بانجليزيته بعد "الدور التاسع"، و الاستاذة نسمة و صديقتها بالتقطيع في فروة الدكتور وليد، الذي دائما ما تخيله صالح رجل ثمين متعرق لزج، و صالح بعينيه الناظرة للأرض. لكن نسمة و صديقتها أخفضا من صوتهما حتى لا يسمعهما الاستاذ عدلي، حتى أن الاستاذة نسمة همت بقص واقعة لكنها همست "لما نخرج بس عشان ماينفعش هنا" مشيرة بعينها إلى الاتساذ العدلي الذي لا يتوقف عن الحديث في محموله.

نزل صالح متعجلا ليتابع المشهد، لكن استوقفته الست جاكلين بعد أن عادت من أحد زياراتها لادوارد. أوصلها صالح و سألته في الطريق عمّا حدث فحكى، فعقبت بعد النزول "أحسن، ياريتهم كانوا اتخنقوا كلهم و ماتوا" و قبل أن تغلق خلفها الباب نادت "واد يا صالح، ماتنساش معاد الدكتور بكرة، ادوارد هيعدي الساعة 6، بس اطلعلي بدري عشر دقائاق عشان عايز اقعد قدام المدخل اشم شوية هواء.. ماتنساش، الانتركوم لسة بايظ و مافياش حيل أنادي".

وصل صالح للأرضي، و كان التجمهر البسيط قد انفض، و لا أحد إلا العقيد و المالك و الحرس.  و الأطفال و المدام أمام العمارة في السيارة منتظرين. نادى المالك صالحا فاقترب مستهابا، متمنيا بأي عطية أو نفحة قد يعطيها له العقيد، أهب نفسه للانحناء و الشكر و التبسم في امتنان. تكلم المالك سائلا صالح "إيه اللي انت عملته دة؟".. تعجب صالح من النبرة و قبل أن يتكلم صاح به العقيد عامر الطوخي.. "ماتنطق.. انت اتجننت؟" اندفاعه كان مناقضا تماما لمركزه و وقار منظره، و استكمل محدثا صاحب العمارة "عيل نجس ابن وسخة يمد إيده على مراتي؟.. عامل بيساعدها و بيلحقها و يروح يشيلها قصادي فاتحلها رجليها؟" و تبع كلمته بلطمة على وجه صالح رن صداها في المدخل، و سط صمت الحرس و تدخين مالك العقار لسيجارته في هدوء. "يا ابن الجزمة دة أنا أفتح رجل أمك و أهلك و بلدك كلها و أهين اللي خلفوك.." و واصل شلال السب و التهديد و الاهانات على صالح الذي كتم دموعه بمجهود و ظل ثابتا بعد أن رنحته الصفعة. أمسك العقيد بهاتفه و قبل المكالمة استوقفه المالك "مافيش داعي". و استكمل العقيد بعد صمت قصير "انت تقف مكانك ماتتحركش، لا تمد إيدك ولا حتى تبص.. انت ما لكش لازمة و ان كان خطاب بيه رضي يشغلك دة يبقى عشان يحلل فيك القرشين الي بتاخدهم.. انت هتكمل هنا - بعد اذنك يا خطاب بيه -، بس عشان تبقى تحت عيني، انت اتحطيت في دماغي.. و قسما بالله تفكر تبص في حتة غير الأرض تاني هيتهان شرف اللي خلفتك.. مفهوم؟".

توجه صالح إلى المصعد صامتا تتألم نفسه مصدومة. ممسكا دموعه بإصرار محاولا حفظ إي من كرامته التى تبعثرت مع أول صفعة. دخل و جلس قليلا شاردا. لا يتحرك المصعد و لا يدخله ركاب. فكر في محمود و تسائل أين هو؟.

مرت الليلة و صالح صامتا متماسكا، رفض حتى البكاء و هو في خلوته قبل نومه الذي لم يزوره حينها. بدى في اليوم التالي مهموما و كأنه فقد فقيد، و هو واقف في الغرفة الفضية دخل عليه عامل توصيل من نفس الصيدلية التي كان يعمل بها محمود، و طلب أن يوصل للدور العشرين. قلق صالح رغم ما به من هم كثيف و سأل بصوت ضعيف "أمال فين محمود؟".. أجاب العامل الجديد "اتمسك من كام يوم، كان ماشي بالمكنة و معاهوش رخصة.. و الي خرب الدنيا انه و هو داخل على الكمين سرح و حك عربية بنت لواء الجيش الى ساكن في شارع النصر.. و لا كان معاه تمن الغرامة و صاحب الصيدلية قال ماليش فيه.. اتشد على القسم أديله اسبوع دلوقتي و ولا حد سائل فيه".

استمر الصمت إلى أن وصل العامل إلى شقة الست جاكلين. ود صالح لو ينزل فيجلس على ركبتيه و يبكي لها. لكنه تصور مزيدا من الرعب و الاهانة، فدخل و انتظر العامل قبل ان تفتح جاكلين فلا تراه و تطلب منه ما يتطلب وقتا. سمعها و هي تقول للعامل "ربنا يخليك فكر الواد بتاع الاسانسير و قول له مدام جاكلين بتقولك ماتنساش تطلعلها 6 إلا عشرة".

حاول صالح أن يتماسك أكثر لكنه فشل في مصارعة دموعه، اجهش في البكاء فور سماعه لصوت جاكلين، و انفجرت عينيه مائا ظل مكبوتا لليلة و يوم. ازداد ألما كلما استعاد شريط ما حصل و صوت الصفعة و السباب. فجأة انغلق الباب بعدما سرح صالح و نسي استمراره في الضغط على الزرار.. و انسحب المصعد من تلقائه تاركا العامل في الدور العشرين، و توقف في الدور الرابع عشر، دخل علي و رنيم بحركاتهم الغير مقبولة. تحرك المصعد وحده و توقف في الدور الحادي عشر، دخلت نسمة و صديقتها و لم تتوقف عن الشكوى، على صوت قبلات الحبيبين و بكاء صالح الذي بللت دموعه الأرض. و لم تجد حرجا في التحدث هذة المرة، فضحكت و استكملت بصوتها المسموع فهما في عالم بعيد عن ما تحكيه لصديقتها. تحرك المصعد اوتوماتيكيا و توقف في الدور التاسع، دخل الأستاذ عدلي بانجليزيته المتقنة مقهقها، و حينها أخفضت نسمة من صوتها قليلا لكنه ظل مسموعا. نزل المصعد و توقف ثانية في الدور السابع عند العقيد عامر الطوخي و اسرته. دخلوا و طارت طائرة الولد في قلب الزر صاحب الرقم صفر .. وصل المصعد، نزلوا حميعا و خرجوا تاركين صالح في مكانه يكتم بكائه المنفجر، ضامما يده و حانيا رأسه.

كانت الساعة السادسة إلا عشرة بالضبط.. خرجت الست جاكلين منتظرة صالح، لكنه تأخر عليها. سحبت كرسيها و جلست عليه، و نادت "يا صالح.. واد يا صالح" و ظلت تميل و ترسل نظرات لباب المصعد منتظرة. ظلت مكانها عشرة دقائق، حين توقف المصعد و فتح الباب. عاتبت في حنان "إيه إلي أخرك عليا كدة.. مش قايلالك إلا عشر.أكيد كافتكرتش غير لما شوفت عربية ادوارد. إيه دة؟.. أمال فين صالح؟" سألت فرد الأمن بعد أن تبينته و تحققت منه.. و الذي اقترب و انغلق وراءه الباب الفضي من تلقاء نفسه.

Popular posts from this blog

من الزهور للجذور 4: بميعاد مسبق

على الجانب الآخر