الحيوان

لم يكن كابتن سيد السبع، اقدم أعضاء السيرك، حاضرا في الإجتماع الطارىء الذي قام به المدير. ورغم أن الكابتن هو مدرب الأسد غضنفر الذي تسبب مرضه المفاجيء بأزمة حقيقية لكل العاملين بالسيرك، إلا إنه كان آخر العالمين بأمر المدير لحل الأزمة. مرض غضنفر المفاجىء حل عليه قبل يوم واحد من بدىء العرض الأهم للسيرك في آخر عدد من السنوات. فبعد أن فقد السيرك المتنقل رونقه وسمعته، سواء بسبب تكرار العروض القليلة أصلا، أو بسبب استمرار نقص العارضين على مر الأيام واعتذارهم لأي سبب كان، خاصة لكبر السن، أو بدون أسباب أصلا لمجرد أنه صار موضة اقترنت بزمن فات؛ جائت فرصة محاولة احيائه من جديد بعد أن استقبل المدير هاتفا يعلمه أن قناة تليفزيونية مغمورة تود أن تنتج فيلما وثائقيا عن السيرك وتاريخه الذي لم يعش منه إلا غضنفر وكابتن سيد. بالإضافة إلى عدد قليل من عارضي الأكروبات الصغيرين والمتناوبين بخبراتهم القليلة على السيرك وأهله. وكان مهم جدا أن تصور القناة أحد العروض لا سيما وأن غضنفر سيكون موجودا وهو الأسد الذي انتزع بزئيره ساعات من التصفيق أيام العز. لم يود المدير تأجيل التصوير ولا العرض، خشى ألا تأتي ال

تشابه أسماء

كان جالسا على الأريكة هادئا مؤدبا تحت ابط والده. يحرك قدميه الخارجة من بنطاله القصير في الهواء. يبتسم كلما أشار أحد والديه إليه و تحدث بفخر عن أخلاقه و تفوقه و أنه كل عام يجب أن يكون الأول على صفه الدراسي. يشكر كل من يبارك له و ينظر في خجل و امتنان الى الهدايا المقدمة.

وسط التجمع و الضوضاء الصغيرة، انعزل عن العائلة و الحضور و الهدايا برأسه و صب كل تركيزه على غرفة المكتب المواجهة فور أن دخلها جده، و ترك بابها مفتوحا شيئا. كان يحرك الهواء الباب قليلا، فتزداد بداخله مشاعر الحماس التي يكبتها احتراما لتعاليم الأهل و للتجمع الصغير حتى لو كان احتفالا به و بنجاحه. يسمع في اذنه صوت طبول السيرك تتسارع دقاتها و يرتعش معها قلبه و أنفاسه. يحرك عينيه محاولا الوصول للداخل، يسمع صوت الدرج يفتح فيحرك رأسه و يمد عنقه محاولا رؤية الهدية الأهم من أكثر من يحب في عائلته. سمع خطوات جده تقترب فتصنع الهدوء و الثبات ثانية، ثم انتفض من مكانه و قفز متجها إلى الغرفة فور أن سمع النداء من داخلها: تعالى يا حمزة.

فتح الباب على آخره و وقف أمام المكتب، و تبعه بقية الأفراد وقوفا خلفه منتظرين هدية العام. هرول حمزة و جلس على حجر جده رغم جسده الذي بدأ يثقل على العجوز، و قامته التى وضح أنها تطول و تتخطى رفقاء سنه. كان الرجل ممسكا بعلبة سوداء. فتحها، و أخرج منها قلم حبري فاخر مصنوع من الذهب، محفور عليه بخط عربي بديع اسم الصبي "حمزة". فرح الولد كما لم يفرح قبلا، فهي من جده العزيز، و ذهبية جميلة، و يكفي أنها محفورة عليها اسمه، فهي حقا مصنوعة له خصيصا.

رفض حمزة كل محاولات والديه في أخذ الهدية و حفظها حتى لا تضيع، و تكفل هو بوضها في دولابه في مكان أمين خلف كل الألعاب. كان يطمئن عليها و يفتحها فيسحر بلونها الأخاذ و اسمه المنقوش بعناية كل ليلة. لا يمر يوم إلا و يلقى السلام على قلم جده الذي عكس كل الصبية في سنه، يخشى حتى أن يكتب به حرفا فيكون قد مس مكانته الغالية في نفسه أو عبث بقيمته.

حافظ على عادته أشهر و قرابة العام.. عام انشغل في نهايته بالتفكير في الهدية الجديدة و ماذا ستكون ان حافظ على تفوقه المعهود. أمل خالطه شعور بذنب بعد ان اشتد مرض جده و ترك في نفس حمزة شك في قدرته على أن يهاديه هذا العام.. شك انقلب يقينا في استحالة تحقيق مراده و استمرار العادة، بعد أن توفي جده الصحفي المعروف تاركات فراغ عميق في نفس حمزة الفتية و في غرفة المكتب الدسمة.

منذ وفاة الجد، لم يقدر حمزة على ترك القلم و زيارته مرة واحدة فقط كل ليلة. أصبح يتفقده كل دقيقة و الأخرى طال ما كان في غرفته. يفتح علبته القماشية الثمينة و ينظر إليه، يرفعه من مكانه و يلفه ببطئ متأملا انعكاس وجهه على سطحه اللامع، اللذي يرى عليه صورة جده و يسمع صوته و هو يناديه ليعطيه هديته الجديدة. يوما بعد يوم، حتى وصل به الأمر بوضع القلم و هو في علبته بجانبه وهو نائم، أو تحت وسادته ان شعر باقتراب أحد من الغرفة.
***

استيقظت المدرسة في يوم على خبر تعيين مديرا جديدا خلفا لمن تردت حالته الصحية بشكل ملحوظ أحال حتى بين أن يجلس على المكتب بهيئة وقورة دون القيام بأي مهمة تذكر.

في احدى الحصص الصامتة، و لا صوت إلا لقلم مدرسة يحتك بالصنبورة البيضاء أمام عدد الطلاب الذي لا يتخطى العشرين بأقصى تقدير.. دق أحدهم الباب و دخل، كانت سيدة و في إثرها رجل و خلفه آخر. فور فتحوا الباب قالت المدرسة بحزم "Stand up".. و تكلمت السيدة بلغة انجليزية رفيعة "This is Mr. Hamza, our new headmaster."   و لم تقل المزيد. نظر الطلاب لحمزة الصغير ضاحكين بعد أن خرج الوفد السامي و انفجر معهم شاعرا بهيبة تطابق اسمه مع اسم المدير.

في يوم جديد في الفصل.. و في وقت بين حصة و الأخرى، قام أحد الرفقاء باخراج جهاز لوحي tablet في خلسة و وجه كلامه لأصدقائه بصوت منخفض: بصوا.. امبارح كان عيد ميلادي، بابا جابلي دة. لم ينبهر الأصدقاء كثيرا، لكن كلهم توسلوا إليه أن يلعب أحدهم دورا، وسط رفض قاطع و نهائي.. بعدها انقلبت الجلسة بين كل التلاميذ لمعايرة و استعراض لما يملك كل منهم من لعبة أو جهاز مشابه، و يجب ان يستدل القائل على صدقه بصورة من على هاتفه إن لم يكن ما يتحدث عنه حاضرا معه.. و إلا فيكون يكذب و ينال من السخرية ما قد يقلب المحادثة لمشاجرة بالأيدي. حتى جاء الدورعلى حمزة.. هو يملك كل ما يتمناه أي طفل، لكنه رأي في عيونهم أهمية تلك الهدايا عندهم، و سعادتهم باقتنائها. و لما سؤل تردد قليلا، هل ستبهرهم أغلى هدية يملك أم يكتفي بإفصاح أنه يملك أشياء على نفس مستوى ما يتحدثون عنه. و لرغبته في الانتصار، و لحماسته الدائمة، قرر في نفسه و تحدث بثقة و فخر: جدو الله يرحمه جابلي قلم حبر. صمت الجميع قليلا، لجزء من الثانية تخيل فيها حمزة الصمت ذهول و مفاجأة و ستتبعه فورا أصوات الانبهار، لكنه تمزق فجأة بضحكات عالية و أصابع تشير بسخرية.. حاول الحديث وسط أصواتهم المزعجة قائلا: دة دهب.. و محفور عليه اسمي. لكن لم تشفع له تبريراته.. حاول أحدهم التمادي في الدعابة متصنعا الجدية، أسكتهم ثم طلب من حمزة أن يريهم صورة للقلم ، مجهزا قنبلة من الضحك ليفجرها فور أن يراه. لكن حمزة لم يكن يملك أي صور، و انطلقت فورا اتهامات الكذب و نكات السخرية من اجساد تضحك بطونها.

رفع حمزة حقيبته على المقعد وضعها بقوة متعمدا اصدار صوت حتى يجذب انتباههم.. مد يده ببطيء في الحقيبة، انتظر الجميع أن يخرج بالقلم الأعجوبة، لكن يده ثبتت بالداخل قليلا، ظلت لوقت سيطرت فيها أفكار التردد على حمزة.. كان أول يوم يخرج فيه القلم من غرفته بعد أن دخلها و صدفة حدث ما حدث!. أيريهم القلم و ينتصر؟ أم يتركه داخلا محافظا عليه و ينال ما ينال؟ أخرج يده أخيرا.. لكنها كانت خالية، و كأنه انهزم أمام نفسه، هو نفسه كان محبطا من تصرفه، و علت أصوات اتهامه بالكذب مجددا. فأدخل يده مسرعا هذه المرة و كأنه أتخذ القرار.

أكان صائبا عندما جاء به؟ ماذا لو لم يكن معه؟.. هو معه الآن و حتما لمصادفة ما و هي أن يبهتهم جميعا، لم تأتي تلك المعركة الكلامية إلا و هو معه دليل فوزه. و أقنع نفسه أنه سيريه للملأ و هو في يده ثم يعيده لمكانه سريعا. أخرج العلبة السوداء، و الأعين كلها تترقب. فتحها و رفع من داخلها قماشة حريرية ناعمة بنفس لون العلبة. وضعها بحذر على الغطاء من الداخل. أمسك القلم المثبت في وسادة اسنفجية غطت أيضا بالحرير الأسود. و رفع القلم اللامع أمام أعين الجميع. أشار باصبعه على مكان حفر اسمه، رآه من رآه، و من لم يعرف تقدم بفضول يأكل الرؤوس حتى تتضح له الروئيا.

انتبه الطلاب و أفاقوا من رحلتهم على صوت مدام بثينة مدرسة اللغة الفرنسية تدخل. انزعجت لرؤيتها ذلك التجمهر، تقدمت بخطوات سريعة سائلة بفرنسية بالغة الاتقان: qu'est-ce qui se passe?.. que faites-vouz?. تحرك كل مسرعا إلى مقعده. رأت كل من الtablet و القلم الذي تعجبت لرؤيته. أمسكت بهما و سألت حمزة باللغة ذاتها عن صاحب القلم. أجاب أنه له و أن اسمه كتب عليه. أخذت المدرسة بهدتيّ الولدين و قالت: الحاجات دي ماتجيش l'ecole، تيجوا انتوا الاتنين تاخدوهم من مكتبي آخر اليوم. و ابتعدت الى الصنبورة و حمزة قلبه و عينه يذهبان حيث يتجه القلم. و هي تضع ما صادرت على المنضدة، سقط القلم على الأرض من قبضة مدام بثينة الممتلئة بحقيبة و أوراق و هاتف محمول و جهاز الtablet، و سقط معه حائط ضخم على رأس حمزة صعقه و صدمه، و كأنه رأى شخصا عزيز عليه يسقط من على سطح بناية شاهقة.. تجمد وجه حمزة للحظة و تشنجت أصابعه.

حاول مع انتهاء الحصة استعادة القلم لكن بلا جدوى. أصرت مدام بثينة على ألا تعيده إلا مع انتهاء اليوم. تقمصت دور المدرسة الصارمة السمجة، لكن بداخلها كانت تخشى على قلم قيم مثله أن يضيع، فرأت أنه من الأفضل أن يبتعد عن يده إلى أن يدخل حقيبته فى نهاية اليوم.

عاد إلى مكتبها مهرولا بعد أن قضى يوما طويلا يهز قدمه اليسرى في توتر و يتأفف، انتظر في ضجر و قلق أن تنتهي الحصص التي طال وقتها ساعات بطيئة لا تمر. دخل بصحبة صديقه صاحب جاررا الحقيبة المفتوحة في يد و العلبة و المنديل الحريرين يحملهم في اليد الأخرى. لم يجد المدرسة التي قصدها و لما سأل عنها أجاب زميلاتها بأنها اضطرت للذهاب مبكرا اليوم. سأل عن قلم ذهبي، فلم يعرفن عن ماذا يتحدث. وجد زميله جهازه اللوحي على مكتبها فاستأذن أن يأخذه حيث أنه ملكه و مدام بثينة طلبت منه أن يمر في نهاية اليوم ليأخذه. كانت قد تركت لزميلاتها خبرا عنه، سألته أحادهن عن الID  الخاص به حتى يتأكدوا من هويته، و بالفعل أخذ جهازه و ذهب مسرعا حتى يلحق بالاتوبيس.

حاول حمزة الاستفسار أكثر و شرح الأمر: أنا كان معايا قلم.. الميس مقالتش عليه؟.. كان مع الtablet.. حضرتك العلبة دي بتاعتو..قلم دهبي عليه حمزة.. اسمي. و أخرج هو الآخر الID  الخاص به معتقدا أنهم ينتظرون ديللا كما حدث مع زميله. لكنهن كانوا يتحركن مسرعات حتى يذهبن هن الأخريات، لم يهتممن تماما لكل ما قال، كانت رؤوسهن في طريق العودة و الأولاد و الأزواج و الغداء و التصحيح و الواجبات، لم يتصنعن ذلك المشهد كما ظن حمزة. ظل يحادث و لا واحدة تنتبه، إلى أن قامت احداهن بفتح حقيبتها معطية له قلم بلاستيكي قائلة في عجالة: خد دة يا حبيبي النهاردة و تعالى بكرة اسأل مدام بثينة على القلم بتاعك. و خرجن جميعا ليلحقن بالحافلات التي تزمجر تحت شباك غرفتهم، تاركين الصبي غارقا في ذهوله محبطا.

أوشكت أعين حمزة على البكاء.. ألقى بالقلم التعويض من الشباك. وضع حقيبته جانبا و عليها العلبة و المنديل. ثقلت أنفاسه فجأة و هدأت بعد أن حملق في مكتب مدام بثينة المميز بالملصقاط و التذكارات التي أتتها أو أتت بها هي من فرنسا، و أدراجه. اختلس نظرة بسرعة على الباب و تأكد أن لا أحد قريب و أن الخطوات كلها مبتعدة. مد يده و فتح أول درج، و صوت الحافلات يأتيه من خلفه يعلو و يعلو، و ضوضاء التلاميذ التي كانت تنتظر الركوب ابتعد و سكن بعد أن استقروا جميعا على مقاعدهم. أول ما وجد هو قلمه العزيز، فرح و انشرح صدره، تأمله فوجد فيه خدش اثر السقطة التي تسببت فيها المدام. سمع صوت أقدام تقترب، تحرك مسرعا بعد أن وضع القلم في علبته، هرول أمام العامل الذي قابله في مدخل الغرفة. خرج حمزة ناسيا الدرج مفتوحا، و صوت الحافلات تتحرك يعلو في كل المكان الفارغ إلا من عدد قليل من العاملين و المدرسين.. لا طالب في المدرسة غيره.

"استنى يا بني.. تعالى" توقف حمزة بعد أن نزل بضعة درجات و تحرك إلى المنادي عندما تأكد أنه يقصده، مرعوب الصبي و الأتوبيسات تتحرك و أمله في اللحاق بحافلته يبتعد و ينكمش مع ابتعاد صوت العربات المنطلقة. صعد حمزة درجات السلم مجددا إلى أن عاد لمستر رأفت مشرف الدور النحيف الطويل.. كان هو المنادي، و كان واقفا بجانبه عامل النظافة ينظر لحمزة نظرات مريبة لم يفهمها الصبي. "إيه إلي مقعدك لحد دلوقتي؟".. سأل مستر رأفت الجاد.
رد حمزة في عجلة و خوف من عدم اللحاق:
- أنا رايح الباص أهو يا مستر.
- بس الباصز كلها مشيت.
و اتبعد مع جملته صوت آخر أتوبيس و حل مكانه صمت لم يسمعه حمزة قبلا في المدرسة.

كاد حمزة أن يبكى مجددا.. قال لمستر رأفت أنه سيتصل بوالده ليأتي فيأخذه. و كانت الاجابة ان المدرسة هي التي ستتصل بولي أمره فورا. طلب المشرف من حمزة أن يقترب، ثم أمره أن يفتح علبة القلم، و لما فعل الولد الجاهل لما يحدث سأله مستر رأفت بعد ان اكتسى وجهه بملامح رجل شرطة فاسد: جبت القلم دة منين؟.
- القلم بتاعي.. جدو جابهولي هدية.
- وريني.
أمسكه متفحصا، اطمأن حمزة لأن الاسم المحفور حتما سيجعل مستر رأفت يصدقه ان كان شاكا في كلامه. لف المشرف القلم بين أصابعه الى أن واجه الاسم، ركز قليلا حتى يراه بوضوح.. اقتضبت ملامحه أكثر لوهلة و هو يركز، ثم اترفع حاجبيه صدمة، كاد أن يصيح، لكن تعاليم المدرسة تحتم على العاملين التعامل مع الطلبة بهدوء، فخرجت كلماته ساقعة: يا نهار أبيض! انت جبت القلم دة إزاي؟!.. طب تعالى.

ضغت مستر رأفت على نفسه ليكون هادئا كما تأمره الأوامر.. و في داخله يقين بأن الولد قام بفعلة شنعاء و هو يموت شوقا لرؤيته يعاقب. وقفا أمام مكتب مستر حمزة المدير، و القلم في يد مستر رأفت الذي دخل و ترك الولد واقفا مرعوبا أمام حراسة عامل النظافة. سمع حمزة الصبي ذلك الحديث البعيد من خلف الحائط و الباب المغلق: القلم يا فاندم.. الولد استنى لما كله مشي.. أنا شايف ولي الأمر يحضر فورا. و الرد الآتى: مش عارف.. لأ تفتكر؟.. أصل جالي هدايا كتير مش بعيد يكون واحد منهم.. أصل ولد إيه الي هيجيله قلم حبر بمبلغ و قدره في السن دة.. و أهله هيسبوه ينزل بيه؟.. و إيه الي يقعده لحد دلوقتي.. أنا مش قادر اجزم انه بتاعي.. مش متذكر الحقيقة.. آه أنا خرجت من المكتب بس.. أنا مش فاكر أماكن الحاجة، لسة جديد في المكان.. احنا نستدعي والده و نسأله و نعتذر له بالشكل اللائق لو الخطأ من عندنا.

أمر المدير العامل بالدخول و سأله عمّا رأى. لكن حمزة اندفع معه و صرخ و هو يبكي: يا مستر و الله العظيم القلم بتاعي و جدو جابهولي و الميس خادته مني لما كنت بالعب بيه. و لكن كعادة المسؤولين و المدرسين، لم يصدقوا طفل في سنه، و آمنوا أنه يختلق كذبة و يجيد تمثيلها و دموعه هذه ليست إلا دموع تماسيح تجيد تصنع البرائة. سأله المشرف الذي امتلأ يقينا بجرم الطفل: طب القلم دة بتاع مستر حمزة.. أنت دخلت عنده و بعدين روحت مكتب مدام بثينة.. خدت حاجة من هناك؟.

خرجت حروف الطفل غير مفهومة يمزقها البكاء، تدخل دموعه الغزيرة فمه المفتوح و ينتفض جسده بقوة و خوف. اتصل مستر حمزة بوالد حمزة الصغير، قام بمكالمة سريعة مبتسما بسمة مصنوعة من نسيج سمج سميك.. و طلب منه أن يحضر ليأخذ حمزة حيث أنه فاته الأتوبيس.

بعد تهدأة الوالد لابنه، و ظنه بأن كل تلك الدموع بسبب عدم لحاقه بالاتوبيس، طلب مستر حمزة من عامل النظافة إحضار شيء يقدمه للأب، بعد أن أقنعه أنه يريد التحدث معه في موضوع بخصوص حمزة. أخرج المدير من درجه القلم أمام أعين مستر رأفت الواقف جانبا، و سأل: القلم دة بتاع حمزة؟. تبسم الأب بعد أن فتح فمه و كأنه يتذكر شيئا: آآه.. دة كان جده جايبهوله لما نجح السنة الي فاتت. نظر مستر حمزة نظرة توعد خاطفة لمستر رأفت، الذي أرسل واحدة بدوره لعامل النظافة الواقف خارجا. سأل الوالد عن الموضوع الذي يريد التحدث فيه. فأتاه الرد بنصف بسمة كاذبة و كلمات سريعة: لا يا افندم، مش موضوع أو حاجة.. كل ما في الأمر أني ما أفضلش أن الأولاد يجوا بالحاجات دي المدرسة.. الهدايا القيمة زي دي لازم نحافظ عليها عشان ماتضعش.. ولا إيه يا حمزة؟.. شد حيلك كدة عشان تبقى مدير زيي و نملالك المكتب أقلام عليها اسمك. و أخرج من مكتبه شيكولاتة صغيرة و قدمها للولد الجامدة ملامحه.


تبادل الرجلين الضحك، و حمزة صامتا لم يعتد لسانه على الحديث في مجلس الكبار، أو بالأحرى لا كلام عنده ليقوله فهو أصلا لا يسمعهم. أخذ يقلب الشيكولاتة بين أصابعه بعد أن نسي الواقعة و حادثة الاتهام.. اطال النظر لقلمه، و غرق مفكرا في كيف له أن يسترده مجددا.. فهو على يقين أنه بعد أن دخل يدي أبيه خارجا من مكتب مستر حمزة، لن يكون له مستقر إلا في مكتبتة الوالد الكبيرة.

Popular posts from this blog

الدور العشرين

من الزهور للجذور 4: بميعاد مسبق

على الجانب الآخر