ما بين السُحُب
- Get link
- Other Apps
كان كل ما يبدو لها لا نهائيا يجلب في نفسها شعور غريب بالرهبة.. أو بالسكينة. شعور غير مفسر، يأتي مع الرياح و النسمات التي كلما هبت، هبت في رأسها الأفكار و الذكريات. كل ما هو عريض و شاسع المساحات: البحر، الصحراء.. السماء.تصمت في حضرتهم، و لا تسأم عيناها من متابعة المشهد الثابت لحركات الأمواج، الرمال، النجوم و السُحُب.
كانت تستشعر صغرها، ضئالة حجم الجميع، كانت تشعر بضئالة حجم كوننا كله. إن كانت راضية أو في مزاج حسن، أحست أنها في وجودها بين اللا نهائيات، أنها في حضرة قوة خارقة، يد عليا تدفع بالأمواج و تسيّر قطع السحاب البيضاء.. قطعة في إثر الأخرى. و إن كانت ناقمة، مُثقلة بالهموم، شعرت بعشوائية المنظر، بتحرك الأمواج و الرياح عبثا.. بتحرك الأقدار عبثا.
قيل لها في الصغر أن من فاتونا تركوا أرضنا، و تصعدوا ليسكنوا السموات. قيل لها أن حياتنا هنا إن طالت قصيرة، و أنّ ملاذنا الأخير بين البياض العالِ. آمنت بما سمعت، و رأت في تشكيلات السحب أُناس تركوها و ذهبوا للخلود، رأت متعلقاتهم و أدواتهم، رأت جياد قالت في نفسها أنهم يركبونها، و رأت أجنحة عظيمة تظلل العالم، أجنحة نبتت من ظهر ساكني السماء.. و إلا كيف قطنوها و كيف صعدوا، كيف إن لم تهبهم السحب تلك الجناحات.
كبرت الفتاة و ما صارت فتاة. أصبحت شابة، ثم سيدة. تغيرت أفكارها و تشكلت على شاكلة الكبار، ليست كتلتك الأفكار الوردية التي آمنت بها في صغرها.. تلاشت الوردية شيئا فشيئا و حل محلها اللونين الأبيض و الأسود، حلّا واضحين. كبرت و نضجت، و علمت أن من يفوتونا تسكن أبدانهم الأرض، و لا تصعد بأجنحة بيضاء للسماء. أنها تُدفن تحت التراب، و لا يراقبنا أصحابها من الجنان. و مع ذلك، و رغم ما عرّفتها الحياة من حقائق و شكوك، و رغم تعدد من قابلت و ارتبطت بهم و اتساع دائرة معارفها.. إلا أنها كانت لا تجد أُنسها إلا في وحدتها، و لا تجد سلوانا يصبرها على من تفقد، إلا تحت السحاب.. و أشكاله التي تمنى نفسها، بروح الفتاة القديمة التي تستحضرها كلما اختلت، أشكاله التي -قد تكون- تعكس حياة ما بعيدة.. حياة أخرى بين قطعة البيضاء.
- Get link
- Other Apps