الحيوان

لم يكن كابتن سيد السبع، اقدم أعضاء السيرك، حاضرا في الإجتماع الطارىء الذي قام به المدير. ورغم أن الكابتن هو مدرب الأسد غضنفر الذي تسبب مرضه المفاجيء بأزمة حقيقية لكل العاملين بالسيرك، إلا إنه كان آخر العالمين بأمر المدير لحل الأزمة. مرض غضنفر المفاجىء حل عليه قبل يوم واحد من بدىء العرض الأهم للسيرك في آخر عدد من السنوات. فبعد أن فقد السيرك المتنقل رونقه وسمعته، سواء بسبب تكرار العروض القليلة أصلا، أو بسبب استمرار نقص العارضين على مر الأيام واعتذارهم لأي سبب كان، خاصة لكبر السن، أو بدون أسباب أصلا لمجرد أنه صار موضة اقترنت بزمن فات؛ جائت فرصة محاولة احيائه من جديد بعد أن استقبل المدير هاتفا يعلمه أن قناة تليفزيونية مغمورة تود أن تنتج فيلما وثائقيا عن السيرك وتاريخه الذي لم يعش منه إلا غضنفر وكابتن سيد. بالإضافة إلى عدد قليل من عارضي الأكروبات الصغيرين والمتناوبين بخبراتهم القليلة على السيرك وأهله. وكان مهم جدا أن تصور القناة أحد العروض لا سيما وأن غضنفر سيكون موجودا وهو الأسد الذي انتزع بزئيره ساعات من التصفيق أيام العز. لم يود المدير تأجيل التصوير ولا العرض، خشى ألا تأتي ال

فركة كعب

اختلتط الخيوط الأولى للشمس بالسماء الغائمة رغم فصل الصيف، وداعبت حراراتها نسائم الفجر الباردة محدثة خليط من الألوان على السحب. استيقظت هي ككل يوم قبل النور، شعرت بتحركاتها النشطة تجوب أرجاء المنزل منذ قيامها الأول. فضلت أن استمر في نومي متمنياً ألا تناديني. انسحب الضوء بخفة داخل غرفتي بين فراغات الشرفة، حينها بدأت في مناداتي دون أن تدخل عليّ، فاليوم كان الأحد وطقوسه أكثر من طقوس كل يوم، وتكون نومتي أثقل. استمرت نداآتها وهي في المطبخ تجهز الإفطار لي ولأبي الذي كان قام وبدأ صلاته. نادتني وهي تقوم بكي ملابس الاسبوع لنا حينما توجه أبي للحمام لحلاقة ذقنه بعد يومي الأجازة، ثم بدأ مشاركتها بدوره وارسال نداآته إلي. هرولت أمي إلى غرفتي، وأبي إلى غرفته لارتداء بدلته، نداآتها لم تكف. كنت رأيتها وهي قادمة، لكني سريعا ما أغمضت عيناي معترصهما وتحولت إلى جثة، وهي تسحبني من يدي وأنا أتثاقل محاولا إجبار جسدي على العودة للنوم. ترجيتها في خمس دقائق أخرى دون أن افتح عيني، فردت بأن الوقت قد تأخر فعلاً، فلم تتركني.

سحبتني إلى الحمام وسحبت بنطالي وأجلستني على امقعدة بأياد سريعة متمكنة، وأنا أبخل ما يكون في بذل أي مجهود. انتهى أبي من إفطاره سريعاً كما اعتاد، وبدأ في استعجالي متأففاً ومهدداً بذهابه وتركي ولن أجد من يوصلني للمدرسة بعدها. كنت أتكاسل حتى يذهب ويتركني فعلاً، وكنت أعلم أنه لن ينفذ تهديده اليومي الذي كان تنفيذه أقصى غاياتي الصباحية. أخرجتني أمي بعدما غسلت لي وجهي وأسناني بكفيها اللتين قضت على نعومتهما المواعين وتدابير المنزل قبل الآوان، وكرر أبي ندائه وهو أمام المرآة يتفقد هيئته ويقارنخها بتلك التي كانت أكثر وسامة قبل الزواج والخلفة.

تأفت وهي تضع الطعام في فمي رغماً عني مداعبة بكلمات عن أهمية وجبة الإفطار بيد، وبالأخرى تلبسني بنطال المردسة الصوف، حينها أيقنت أنني فشلت مجدداً في إقناعهم باستبقائي، وإقناع أي أن انتظاره سيطول وأنني سأتسبب له في مشاكل عملية لا حصر لها. فكرت في الحيلة البديلة فوضعت يدي على بطني وأغلقت وجهي، وقبل أن اتفوه سبقني أبي وقال"ماتحاولش"، ففشلت حيلة التمارض مرة أخرى ككل يوم إيضاً.

أمسك الرجل بحقيبة المدرسة  في يد، و بي في اليد الأخرى. سحبني على الدرج مهرولاً، ثم توقف على نداء أمي وعاد حينما تذكرت هي أنني نسيت الساندويتشات. عاد إلي مجدداً قائلاً وهو ينطلق دون أن ينظر إليّ "النهاردة اتأخرنا فعلاً". وسحبني إلى الشارع.

خرجنا ولم تكن الحياة قد دبت بكل حيويتها في الشارع بعد، فقط بضع سيارات وقليل من المارة. المقاهي والمحال –إلا الكشك القابع على جانب الرصيف- ما زالت مغلقة،. كانت سيراتنا على الجانب الآخر من الشارع. قبل أن نبتعد نظرت إلى أمي التي كانت تودعنا من الشرفة ككل يوم، لوحت لي ولوحت لها. وضع أبي قدم على الطريق، قبل أن يسحبها فجأة بعد أن وضع يده على جيبه، تنهد بصوت مسموع وكأنه لا يكلمني "المفاتيح". وضعني على بداية الرصيف وأمرني ألا أتحرك. ركض إلى داخل العمارة وانغلق خلفه بابها، وتأملت أنا سطوع الشمس البطيء وعودة الحياة الصباحية إلى شارعنا، بعدما استجرت لأنظر لأمي لأجد الشباك مغلقاً.

وقفت منتظراً، متابعاً تزايد عدد السيارات وعلو أصواتها وأصوات منادن الأتوبيسات. ارتفعات أبواب المحال عن الأرض في صف عمارتنا وفي الجهة المقابلة حيث السيارة. خرجت الكراسي من داخل المقاهي ورش قهوجيتها الماء أمامها. تراصت المقاعد وفُتحت أجهزة التلفتاز على  أصوات قارئى القرآن. لتفت إلى العمارة القديمة منتظراً أبي الذي شعرت بتأخره عندما لاحظت استبدال الحرارة لنسائم البرد النهارية. واجهت النافذة باحثا عن أمي أسألها، لكنها لت تخرج ولم تفتح النافذة. عدت قلقاً وخائفاً من وقفتي في الشارع الذي بدأ يزدحم. وانتظرت أن يدخل أحد العمارة أو يخرج منها فيفتح الباب وألج أنا منه أبحث عن والدي. انتظرت ولم يحدث ما رجوته. وضعت أذني على الباب باحثاً عن خطوات أطمأن بها. وضعت أذني وألصقتها حتى آلمتني رقبتي ولم أسمع لحذاء أبي صوت. حدت خطوات للخلف متنمياً أن أرى النافذة تتحرك. عدت خطوة خلف الأخرى حتى انزلقت قدمي دون أن أشعر عن الرصيف، وفوجئت بإنذار سيارة تتوقف متفاجأة بي كما فزعت أنا بها. ردة فعلي قذفت بي على الرصيف مجدداً. تأملت العالم حولي فكان الشارع متكدساً بسياراته ومارته الذين ارتطموا بي واحتكت أبدانهم المتحركة بجسدي الضعيف الذي لا يريد أن يبرح مكانه. لم يكن هناك مكان آخر لى، ولا حتى مربع بلاط آخر على الممشي أذهب إليه.

انفتحت المحال وترددت عليها الزبائن بكثرة. امتلأت المقاهي بضجيج الحناجر والأكواب والأرجيلة والطاولة والدومينو، واستبدل قرآن الصباح بأجساد الراقصات. كل هذا تحت نار الشمس الصفراء، التي لمع بريقها المؤذي للعين على شرفة بيتنا التي لا تفتح. احنرقت عيناي بعدما تقطر فيهما العرق. مسحتهما ومقدمة رأسي بكم القميص. تخللني شعور ذنب عدم التزامي بنصائح أمي لأحافظ على نظافة مظهري. لم يكن لي اختيار ولم أفكر كثيراً قبل أن أمرر الكم على كل وجهي ورأسي، فأبلله بخليط الملح وما ترسب على وجهي من وسخ الشارع المكتظ.

بصعوبة ارسلت نظري بين السيارات والمارة إلى الجهة المقابلة. كانت سيارة أبي في مكانها، فكرت في امكانية أخذه المفاتيح وعبوره بدوني، وانتظاره لي داخل السيارة. لم أقوى على تحديد إن كان بداخلها أو لا؛ كان الزجاج مغلقاً لعطل أصابه منذ زمن لا أتذكره، ربما جاء أبي بالسيارة على ذلك العيب. أما كان يجب عليه تصليحه حتى يساعدني في محنتي؟ بدلت نظراتي الحائرة بين النافذة والمدخل والسيارة. لم أعرف، أأنتظر أم أذهب إلى الجانب الآخر. ربما كان أبي هناك يضغط على عجلة القيادة لينبهني بإنذار السيارة أنه هناك. لكن كيف لي أن أميز الصوت وسط كل تلك الأصوات المصمتة؟ مسحت وجهي في كم القميص مجدداً وكأنني آخذ القرار. نظرت إلى النافذة والمدخل، ثم إلى السيارة التي بدى حينها وأن مقعدي فيها ينتظرني؛ أو هكذا كان الأمل الوحيد. لقد تأخرت كثيراً على المدرسة، وتأخر أبي كثيرأ على عمله.

تحركت وسط الناس بخطوات منمنة وحلق جاف إلى حافة الرصيف. كان قد تلاشى جزء قليل من تكدس المرور، فتحركت سيارات لا حصر لها بسرعة مذهلة أمامي. سرعة دفعني هواؤها خطوة للخلف عندما تقدمت أول مرة.بحثت عن أمي في النافذة مرة جديدة، تمنيت ولو حتى أن تشاهدني وأنا أعبر الطريق؛ كنت سأمطئن حينها. أخذت القرار، لامست الأسفلت الساخن بطرف قدمي، ثم بباطنها مكتملاً. باغتتني سيارة خرجت من خلف حافلة نقل واقتربت عن يساري بسرعة البرق، وكأنها سمكة قرش تستهدف قدمي، سمكة الساردين الوحيدة في المحيط. سحبت قدمي في ردة فعل لم أتوقع أن تخرج مني بتلك السرعة، فعدت إلى نقطة الصفر التي لم أبعد عنها؛ ولم أصدق أن قدمي مازالت في في مكانها.

قدمت قدمي في محاولة جديدة.خطوت بين هجمات السيارات متفاديا هجمة تلو الأخرى، إلى أن وصلت إلى منتصف الطريق وتوقفت بين اتوبيسين حجبوا عنى النور لحظة مرمرهما. تحركت بعدها حتى وصلت إلى الحارة  الأخيرة. انتظرت إلى أن جائت الفرصة، فوثبت إلى الرصيف الفاصل بين الاتجاهين ولم أصدق أنني فعلت. عبرت منتصف الطريق بصعوبة قضت على أنفاسي، وصولي لتلك النقطة لم يبد أبداً بتلك الصعوبة، ثم تحول إلى حلم محال المنال حينما كنت أتراقص بين السيارات الطائرة. كانت سيارتنا هناك ولم تبد بحالة جيدة. وفي الجهة الأخرى كان الشباك المغلق منذ الأمد، وكان الباب الذي لم يفتح منذ وقت بدى وكأنه منذ أن بدأت الأيام.

اشتممت شيئاً أشبه برائحة الغداء. وسألت نفسي: أكل هذا الوقت قضيت في الشارع؟ بالقطع أنتهى اليوم الدراسي ويوم العمل. اشتممت الرائحة وعذرت أمي، فهي انشغلت عن فتح النافذة بتحضير الطعام لنا. فكرت في الوضع الذي كان ليكون لو لم أتكاسل. كنت سأقوم في موعدي، فأتحرك أنا وأبي دون تأخر وبلا عجالة، فما كان ليرتبك أبدا فينسى مفتاحه. وبعدها نعبر الشارع الفارغ سوياً، ثم يكون كل منا حيث يجب أن يكون بعد رحلة قصيرة وحديث ممتع بين أب وصديقه الابن. أو ربما هناك تفسير آخر، تكاسلت أو لم أتكاسل، كان وارد أن يتركني الرجل وحيداً وسط خلق الله دون أن يعلم أين أنا وماذا يدور في يومي وهو في مكتبه. وأمي التي لم تهتم لرؤيتي أصل أو أضل الطريق، ربما انشغلت عني بمكالمة هاتفية أو برنامج طهي تلفزيوني لن تصنع أي من أطعمته. كانت تلك هي الصور المتضاربة في المخيلة، صور أشعرتني بالندم تارة وبالغضب تارة، وفي الحالتين انتظرت أن تتبدد مخاوفي بظهور أبي من باب العقار أو من السيارة، أو أمي من الشرفة، فأعاتبهما أو أعتذر. حقيقة، لم يهم من أين الظهور، فأنا كنت أبحث عنهم في كل وجه مار وفي داخل كل سيارة حتى لو لم تكن من لون سيارتنا أو من طرازها.


سيطر عليّ الجوع مع ازدياد الروائح من النوافذ والمطاعم، كنت ما زلت على الرصيف الفاصل بين الطريقين. قررت أن استرح واستقوى على استكمال زحفي نحو الجانب الآخر. فتحت حقيبتي وهممت أن أخرج منها ما آكله، أردت أن أقضي على خوفي، بالطعام. مددت يدي داخل الحقيبة، وقبل أن ألمس أي شيء، فطنت لصوت إنذار سيارة جديدة تقترب مني بسرعة. انخلع قلبي، ولم أشعر إلا بي ساقطاً وبظهري يرتطم بالرصيف، وبأصوات عجلات السيارة والسيارات اللاحقة تصرخ محاولة التشبث بالطريق  تحتها. لم أفهم ما هو شعوري، كانت الصدمة موسعة لعيني، فاتحة لفمي، وخاطفة لأنفاسي، ولا شيء حولي مفهوم. توقف الشارع بسيراته ومارته وجالسي المحال والمقاهي، والتف منهم حولي عدد لم أعرف من أين جاء ولا من أين حل الصمت الذي وقع على العالم. مد الناس آياديهم واعتلت أعينهم نظرات الشفقة. سندني رجل رافعا ذراعي على كتفه، لم أعرف كيف طال ذراعي كتفه ولا كيف تأبطه أنا الصغير. سألني بأدب مهتم "أنت كويس يا حاج؟". لما لم يجد من رد، تحرك بي إلى الجانب الذي قصدت، ظل يكرر طوال رحلتنا القصيرة التي خضتها بقدم وبأخرى لم أشعر بها "على مهلك يابا". وصلنا للجانب الآخر. أخيراً رأيت السيارة عن قرب، أخيراً وصلت إليها. لا، لم تكن بأفضل حال، بل كانت في حالة رثة مستحيل أن تسوء عنها. بدت عجوز شاحبة، بلا إطارات أو ألوان. غطاها الطين وأوراق الشجر وبراز الطيور. توقفت عن المضي مع الرجل، حدثني ولم أعرف ماذا قال، اقتربت بقدم ونصف وملت حتى واجهت الزجاج الذي لا يفتح. بحثت عني وعن أبي الذين كانا ليجلسان هنا، لو ما تكاسلت وحاولت الهرب. ظللت محملقاً. تركني الرجل وانسحب وسط أمواج المارّين. عاد الشارع إلى حركته. وآبت المقاهي إلى ضجيجها، والسيارات إلى سباقها.

Popular posts from this blog

الدور العشرين

من الزهور للجذور 4: بميعاد مسبق

على الجانب الآخر