الحيوان

لم يكن كابتن سيد السبع، اقدم أعضاء السيرك، حاضرا في الإجتماع الطارىء الذي قام به المدير. ورغم أن الكابتن هو مدرب الأسد غضنفر الذي تسبب مرضه المفاجيء بأزمة حقيقية لكل العاملين بالسيرك، إلا إنه كان آخر العالمين بأمر المدير لحل الأزمة. مرض غضنفر المفاجىء حل عليه قبل يوم واحد من بدىء العرض الأهم للسيرك في آخر عدد من السنوات. فبعد أن فقد السيرك المتنقل رونقه وسمعته، سواء بسبب تكرار العروض القليلة أصلا، أو بسبب استمرار نقص العارضين على مر الأيام واعتذارهم لأي سبب كان، خاصة لكبر السن، أو بدون أسباب أصلا لمجرد أنه صار موضة اقترنت بزمن فات؛ جائت فرصة محاولة احيائه من جديد بعد أن استقبل المدير هاتفا يعلمه أن قناة تليفزيونية مغمورة تود أن تنتج فيلما وثائقيا عن السيرك وتاريخه الذي لم يعش منه إلا غضنفر وكابتن سيد. بالإضافة إلى عدد قليل من عارضي الأكروبات الصغيرين والمتناوبين بخبراتهم القليلة على السيرك وأهله. وكان مهم جدا أن تصور القناة أحد العروض لا سيما وأن غضنفر سيكون موجودا وهو الأسد الذي انتزع بزئيره ساعات من التصفيق أيام العز. لم يود المدير تأجيل التصوير ولا العرض، خشى ألا تأتي ال

البدلة

البدلة

في قاعة الإنتظار.. كان جالسا على أريكة جلدية سوداء منتظرا دوره.. و بين يديه ملف أحمر تحتوى أوراقه على سيرته الذاتية. تتصدر أولى صفحاته صورته الشخصية بملامح جادة و ملابس رسمية، و تفيد كلماته بأنه حديث التخرج من احدى الجامعات الخاصة المرموقة بتقدير عام جيد جدا. طال عليه الوقت و زاد معه شعوره بالتوتر و الانقباض، الذي فسره بقلقه من مقابلة العمل التي يوشك على اجرائها، رغم ثقته المعتادة بنفسه و هدوئه المعروف عنه الذي طالما تخطى به  كثير من المواقف الصعبة و الهامة، إلا إنهما هربا في الهذا اليوم تحديدا و تركوه وحديا ضيق الصدر و محدود الفكر. طال الوقت أكثر، أصيب بالملل، نظر الى ساعته الفضية مطلقا زفرة تعكس قليل من الضجر و كثير من القلق، فوجئ إذ ام يمر من الزمن إلا دقائق خمسة منذ أن استقبلته الموظفة و طلبت منهالإنتظار!.. نظر الى ساعة الحائط المعلقة امامه فتأكد أن عجلات زمن تتحرك ببطئ وعقارب الساعات أصابتها الشيخوخة.

أخيرا و بعد سبعة دقائق خنق بهم، سمع صوت خطواتها السريعة تقترب. طلبت منه الملف و اتأذنته بأن يتفضل معها.. تبعها الى غرفة صغيرة حيث المقابلة. لم تطل أكثر من عشر دقائق و انتهت بالإتفاق على إنضمامه للشركة لمدةشهر على سبيل الملاحظة و التقييم، و من بعده يتحدد معهم مصيره.

في اليوم التالى، امتلأت روحه بحماسه الهادئ القديم المعتاد طوال الطريق، شعلة إصرار تشتعل في داخله كلما وضع أمامه هدف و سعى في تحقيقه في صمت.. هدفه اليوم فرصته شهر، و هو إثبات أحقيته بالوظيفه. لكن سرعان مابدأ نورها يخفت لحظة دخوله مقر عمله الجديد، يخفت كلما تقدم خطوة و لامس حذائه الجلدي الأسود الأرض الرخامية البيضاء و انطلق صداه في المبنى الضخم، يخفت كلما نظر حوله متأملا عالمه الشاسع الجديد.. الى أن انطفأ لحظة جلوسه على مكتبه. مجددا،فسر ذلك الإنخفاض المعنوي بهيبة المكان و ضخامته، بثرائه و فخامة أثاثاه، بحداثة قدمه في سوق العمل، بفترة الأختبار التي وضع تحتها. حاول التركيز قدر المستطاع طاردا من رأسه أي فكر قد يثمر أثرا لا تحمد عقباه. و مع نهاية اليوم الأول القصير، شرع في ترتيب المكتب و تهيئته لغد أكثر عملا و اجتهادا. و هو يحرك الأوراق ويرتبها، و يفتح الأدراج و يغقلها، لاحظ قطعا واضحا في احدى أكمام سترة بدلته.. تكدرثم لم يأبه، سيذهب لتصليحه و غدا سيأتي بأخرى.

يوم جديد، استيقاظ مبكر و وصول قبل الميعاد.. لكن الشعور في الإنقباض و الضيق مستمر. يقنع نفسه بأنه سيعتاد حتما، فالفرصة لن تعوض و المرتب غاية في الإغارء. مر اليوم، تعلم، راقب، تأمل و عمل في حدود خبرته الوليدة.. و في نهايته و هو يوشك على المغادرة، لملم الأوراق و أخلى سطح المكتب.. و ثانية، لاحظ ثقب جديد في سترتة البدلة، في نفس المكان و بنفس الشكل. امتعض، زفر، تفحصه سريعا وأخذ يبحث عن طرف حاد في المكتب أو في أحد الأدراج، قد يكون المتسبب في نهاية يومه بشيء من الكدر.

 يوم آخر والشعور الخانق حاضر، المسكنات العقلية تنفع تارة و تفشل عشرات.. حذر شديد جدا صحب تحركاته، يتعمد ألا يلامس حائطا ولا بابا، لا يسند على شيء، لا يفتح درجا الا ببطئ، لا يجلس على مقعده الا بعد تفقده قبل كل جلسة.. و أيضا لا يستخدم  أي من مسانده ولا يلامسه بظهره. فهي بدلته الأخيرة العذراء في ثلاث أخريات يمتكلهم، و الإصلاح حتما لا يعيدها الى أيامها الأولى. طوال اليوم يشتت فكره بين عمله و بين أكمام البدلة، التي تأكد على سلامتها فهدئ تدريجيا الى أن رجحت كفة التركيز في أشغاله التي تزداد يوما بعد يوم. و مع اقتراب اليوم على الرحيل و الانطماس في دفاتر الزمن التي لا تفتح الا مرة في الحياة.. كان قد فرغ من عمله و بدأ في ساعة التأمل التي ستستمر الى أن يحين انتهاء ساعات العمل.

كطفل حديث الإنضمام لمدرسة، أو طالب يرى الجامعة للمرة الأولى، كان يرسل نظراته الفضولية المستكشفة يتعرف بها على هيئة الدور و تفاصيله مستغلا ساعة فراغه التي يعلم أنها ستمتلئ قريبا.. يتأمل بها ملامح الزملاء و يقرأ بها تحركاتهم و لغة أجسادهم، يمني نفسه باليوم الذي سيصبح فيه واحدا منهم، و ليس مجرد زائر أو ضيف سيحل لمدة شهر.. تأمل و تفقد و استكشف، تسائل في نفسه و أجاب، وضع خططا و بنى أحلاما.. نفذها من على مكتبه و في مقعده، حتى رأى نفسه مديرا و شعر بهيبته كرئيس.. حالة الشرود تلك لم تستمر طويلا، سرعان ما قطعها ما انتبه إليه للمرة الأولى.. شيء في غاية العجب. هي شركة منظمة و يتضح ذلك قي الشروط و القواعدالتى أمليت عليه يوم المقابلة..  و يتجلى مليا في عظم الاسم و حجمه في السوق، يعرفه كل كبير و صغير في عشرات الدول حيث تنتشر مئات الفروع. لكن هناك ما أثار في نفسه الريبة و القلق أو على أقل تقدير التساؤل، حاول سابقا ان يطرد ذلك الشيء من رأسه متعلا بأنها هواجس الرهبة و حتما ستزول، لكنه سيطر عليه اليوم و بعد أيام قليلة من بداية تردده على المكان.. جميع من يعمل هنا مع اختلاف أعمارهم و أجناسهم، و على تفاوت رتباتهم و مناصبهم، بداية من عامل النظافة الى القائد أو الرئيس المسؤول عن قطاع معين من الموظفين.. تبدو هيئاتهم متشاهبه.. لا ليست الملامح، هناك شيء ما يجمع بينهم و يميزهم، شيء يظهر في  الوجوم الدائم المرتسم على وجوههم اللا تعبيرية، التركيز و الأنهماك في العمل، نوعا من الانهماك الذي لم يعتاد عليه ولا يراه محمودا.. شيء في تحركاتهم الآلية وأعينهم الواسعة.. في ملابسهم التي تبدو بالية متهالكة.. كيف له ألا يلحظ ذلك من أول يوم.. شيء في.. لحظة!.. نظر مكان الثقب فوجده حاضرا من جديد.. انسحبت أعينه داخل فراغة، كانه دوامة في وسط محيط بلدته الكحلية.. واضح جليا في بلدته و في بدلاتهم!.. كل الموظفون أكمامهم مثقوبة و بدلاتهم معيوبة.. تختلف درجة البلاء وحجم الثقوب و أعدادها.. يبقى هو أقلهم تهالكا و أكثرهم نضارة، لكن الواقع أن جميعهم متماثلون.

حاول البحث عن رد مقبول أو حتى مرفوض لما دار في رأسه من ريبة و في نفسه من قلق.. التفت لأحد المكاتب المجاورة و استرق نظرة على لوحة فضية تحمل اسم الجالس عليه.. هم بلفت انتباهه ب"بعد إذنك"  لكنه لم يستقبل أي رد و لو بحركة جسدية.. المسؤل عينيه محدقة بشاشة الكمبيوتر و لا تحيد عنها، و أصابعه لا تتوقف عن الدق و الارتعاش على لوحة مفاتيحه.. حاول مجددا ب"لو سمحت" و لكن دون جدوى.. وصل تعجبه الى أقصى حدوده، شعر بشئ من الاهانة و الغربة.. ظل ناظرا الى ذاك الزميل الميكانيكي في تعبيراته و تحركاته باندهاش و تشوش، و الذي انتفضت ذراعه فجأة كاسرة وضعه الحجري و أمسكت بسماعة الهاتف الذي لم تكتمل رنته الأولى.. وضعهه بين أذنه و كتفه مميلا رأسه و معيدا أصابعه لتكمل رقصتها على لوحة المفاتيح.. "حاضر يا أفندم.. تمام.. تحت أمرك".. أعادها مكانها و استمر هو في الدق.

 نظر حوله باحثا في وجوه أخرى عن اجابة فلم تختلفالصورة.. ردود الجميع متماثلة متطابقة لكل من يعلوهم في المنصب ب"حاضر، تمام، تحت أمرك".. تلك الكلمات الثلاث طرقت آذانه لكنها كانت تعبر بسلام دون أي اهتمام، هو نفسه كان يرددها و هو يتعلم أو يُسأل مهمة معينة.. شيء رآه طبيعي جدا.. و لكن فيما بينهم،لا حديث ولا كلام.. كلمات ثلاث، من تعود على ترديدهم أكثر تزداد بدلته بلائا و تهتكا.. هي جزيرة سكانها من الآليين، و شعبها أخرس إلا عن لغة الكلمات الثلاث التي لا يُنطق بها إلا للرؤساء و رؤساء الرؤساء.. لباسهم موحد و هيئاتهم متماثلة.. تحركاتهم متطابقة على أرض وطنهم، مبنى الشركة.

  أسبوع مر أزداد فيه حمل الشغل بصورة لم يتوقعها.. و ازدادت معه و تراكمت مشاعره المنقبضة، و كأن شيئ يمسك بقلبه يعتصره و يطبق على صدره.. صاحبه الإحساس الكئيب داخل مقر العمل وخارجه.. حال أشبه بالتمزق، تماما كأمام بدلته التي يمرر أناملة على ثقوبها و في داخلها كل ليلة.. حيرة قد تصيبه بالجنون.. هو لا ينتمي إليهم، ليس منشعبهم.. لم يعتاد الطاعة العمياء و لا العمل كترس ضئيل في مكنة عملاقة تديرهالتروس الااكبر حيثما رغبت.. تخيل أن يكون هناك مساحة كافية تتيح له الابتكار حتى يثبت ذاته.. "كيف لي أن اثبت من أنا ان انطمست هويتي بين عشرات من هؤلاء المستنسخين.. سأتركهم.. سأهرب.. و لكن الفرصة لن تتكرر!.. المبلغ مغر و المنصبتماما ما تنميت لأبدأ به حياتي العملية.. اسم الشركة وحده كفيل باللهث ورائه.. ثمأن اسبوع ليس بالفترة الكافية للحكم.. هي الرهبة و عدم التعود.. هو اختبار واستكشاف لحياة جديدة سأحياها.. سأنتظر.. حتما سأنجح من غير تملق أو استعباد..سأنام.. و غدا أبدأ العمل من جديد دون اللإلتفات لتلك الأفكار الصيبيانية.. غدابداية جديدة".

أوشك الشهر على الانتهاء.. حاله يزداد سوئا.. و لكنه أقنع نفسه و يزداد اقتناعا.. اقتناعا بأنها رحلة طالت أو قصرت ستوصله الي مصيره الذي يبتغيه.. العمل و كل ما يترتب و يبنى عليه طيلة العمر.. يزداد كبتا و سجنا لشيء مابداخله خرت قواه و انعدمت مقاومته مع مرور أيامه في هذا المكان.. أخذ يخدر عقله ويتفنن في صياغة ما لذ و طاب من مسكنات و مبررات يكذب به عليه.. البشرة التي شحبت والجسد الذي نحل، بسبب الإنهماك في العمل.. الاحساس الكئيب ما هو الا توتر سيتلاشى و يختفى فور امضائي العقد مع بداية الشهر الجديد.. قلة أو نعدام الكلمات معالزملاء، سببه التركيز فلا وقت للتعارف و السمر.. النجاح أهم.. الكلمات الثلاث،شيء لابد منه فهن مصاحبات للطاعة الواجبة حتى يرضى الأسياد و تصيبهم المسرة، و منثم التقدم في المراكز و الصعود على درجات النجاح.. تلك هي البداية فحسب، و بعدالتثبيت سأبذل المزيد.. و بالنسبة للابتكار و تجديد.. حتما سأفعل حين أكون من أصحابالقرار، لكن الآن الطاعة هي السبيل.. و كثير من الأكاذيب التي فشل في اختلاق منهاما يتناسب مع المرض الذي لا يتوقف عن التفشي في نسيج بدلاته.. فغض البصر و الفكرعنها و أعمى نفسه عمدا.

حل اليوم الموعود.. جائه الخبر و أخيرا سيلتحق بالوظيفة الحلم.. سبق اليوم ليلة طويلة لو يغمض لها فيها جفن و لم يهدأ له بال.. فشل فيها في ارغام نفسه على النوم الجبري.. ذلك الشيء الذي اعتقد بل صدق انه نجح في قتله أخذ في الاستيقاظ و التحرك مجددا.. مطلقا وساوس و كلمات أرغم نفسه على عدم التفكير في أي منها.. ذلك الشيء، كلما اقترب الموعد على صوته و أصبح أكثر وضوحا.. أكثر واقعية.. أكثر صدقا. دخل الغرفة و جلس وحيدا ولا شيء أمامه سوى عقد وقلم حبري فاخر.. دخلت معه احدى موظفات الموارد البشرية و تركته منتظرة خروجه بالعقد موقعا بأسمه، بعد أن قامت بشرح و توضيح بعد النقاط التي لا يذكر منها أي شيء، فذلك الصوت الذي بداخله أبدا لا يسكت و هو أعلى من الجميع.. ما الذي أعاده للحياة؟.. قرأ العقد مرات و مرات محاولا التركيز.. في كل مرة يشرد فينقطع به الطرق، فيعيد الكرة مجددا.. وضعه أمامه و أمسك بالقلم، ظل ممسكا به محركا اياه بين أصابعه المتعرقة، يتنفس بثقل و صوت مسموع و الصوت الآخر في رأسه يعلو و يعلو.. أمسك بالعقد ثانية، قلبه فأصبحت الصفحة البيضاء مواجهة له.. رسم خطا بطول الصفحة و قسمها نصفين.. نسى جدية أو جلالة الموقف، أخذ يكتب و يشخبط و يرسم خطوطا على ظهر الورقة القيمة...نصفين اثنين.. وكانه جدول مقارنة زرعه وسط تلك الضوضاء و الفوضى التى أحدثها قلمه المصاب بالصرع.. الموظفة عادت و طرقت الباب مرتين، فتحته و لم تدخل، توقفت للحظة متعجبة.. لم تجده، لا أثر له.. لا وجود في الغرفة الا لورقة على المنضدة و سترة كحلية على الأريكة.. ورقة غطتها الخطوط و السواد و الكلمات التي تناثرت يمينا و يسرا.. يمينا العشرات منها التي اجتاحت الورقة متجاهلة السطور ك: فلوس،مركز، عربية.. و كل ما يمكن أن يحظى به مع التحاقه بالعمل.. و يسارا خطوطا عرضية لا نهائية، برج منها امتد من أسفل الصفحة حتى أعلاها، برج أسود اعتلاه مربع كإعلان مضيء ليلا استقر فوق أحد العمائر الشاهقة.. توسطته كلمة كُتبت بقوة حتى اخترقت نسيج الورقة محدثة فيه شق محاط بسواد الحبر.. كلمة"أنا".. و سترة بلا صاحب يشع لونها الغامق بالوقار و ملمسها الناعم برفعةالذوق، سترة يكسوها الزهو و الخفيف من اللمعان.. ناضرة و كأنها جديدة لم تلبس..بلا عيب و كأنها سليمة لم تثقب.

أحمد فرغلي
6/2014

 

Popular posts from this blog

الدور العشرين

من الزهور للجذور 4: بميعاد مسبق

على الجانب الآخر