الحيوان

لم يكن كابتن سيد السبع، اقدم أعضاء السيرك، حاضرا في الإجتماع الطارىء الذي قام به المدير. ورغم أن الكابتن هو مدرب الأسد غضنفر الذي تسبب مرضه المفاجيء بأزمة حقيقية لكل العاملين بالسيرك، إلا إنه كان آخر العالمين بأمر المدير لحل الأزمة. مرض غضنفر المفاجىء حل عليه قبل يوم واحد من بدىء العرض الأهم للسيرك في آخر عدد من السنوات. فبعد أن فقد السيرك المتنقل رونقه وسمعته، سواء بسبب تكرار العروض القليلة أصلا، أو بسبب استمرار نقص العارضين على مر الأيام واعتذارهم لأي سبب كان، خاصة لكبر السن، أو بدون أسباب أصلا لمجرد أنه صار موضة اقترنت بزمن فات؛ جائت فرصة محاولة احيائه من جديد بعد أن استقبل المدير هاتفا يعلمه أن قناة تليفزيونية مغمورة تود أن تنتج فيلما وثائقيا عن السيرك وتاريخه الذي لم يعش منه إلا غضنفر وكابتن سيد. بالإضافة إلى عدد قليل من عارضي الأكروبات الصغيرين والمتناوبين بخبراتهم القليلة على السيرك وأهله. وكان مهم جدا أن تصور القناة أحد العروض لا سيما وأن غضنفر سيكون موجودا وهو الأسد الذي انتزع بزئيره ساعات من التصفيق أيام العز. لم يود المدير تأجيل التصوير ولا العرض، خشى ألا تأتي ال

اللجنة

لا اسمع الا صوتي و أنا أهمس محاولا تذكير رأسي بالجواب في هذه القاعة الباردة الصامتة المهيبة رغم حجمها الصغير.. خطوات المراقبون البطيئة تحيط بي و نظراتهم تزحف لاهثة خلف أي خطأ من التفاتة أو زفرة مسموعة.. لا أعرف الجواب و وضعي في الامتحان لا أحسد عليه.. لا أعرف ان كان جهدي الضعيف المتناثر على الورقة كفيل بعبوري للأختبار رقم 138 في هذه الجامعة أم سيكون بمثابة قفزة ضعيفة لا تسعفني في العبور للضفة المقابلة.

قطع الصمت صوت سمعته بوضوح يناديني.. نظرت حولى لم أجد المنادي و لا أحد انتبه سواي.. لم أفهم. مجددا.. أسمي لكن هذه المرة مسبوق ب يا باشمهندس.. و المصدر مجهول.. نظرت للورقة و توتري في زيادة.. فوجدت كلماتي و رسوماتي يختفي حبرها و يهرب.. يتلاشى حتى ابيضت الورقة حتى من سطورها التي تموجت ثم تشابكت و تعقدت و التفت حول ما تبقى من رسوم ضعيفة خنقتها ثم سحبتها و غاصت في أعماق الورقة الخاوية.. مددت يدي حاولت منعها..حاولت أن أمسك الأحرف و النقاط فصعقني شيء في أناملي حرم على لمس الصفحة المسمطة.. رفعت رأسي لأستنجد بأحد المراقبين.. لا يوجد منهم أحد.. لا يوجد أحد غيري.

 الغرفة أتسعت لأفدنة و أصبحت مظلمة تحتوى الآلاف من المقاعد الخاوية التي لا تقوى عيني على رؤية أخرها.. مظلمة من كل نور الا من ضوء سماوي أقتحم شقوق جدرانها العملاقة الموشكة على السقوط.. الغرفة بلا سقف.. و فتحات الجدران الحجرية الحمراء لا تكشف ورائها الا عراء و فراغ.. خرجت شاققا طريقي بصعوبة وسط المقاعد التي غطاها التراب و التفت حولها أفرع شجر شائكة. الغرفة وحيدة في الخواء.. لا شيء الا صحراء و سلم أسمنتي يحمل بقايا الغرفة على عاتقه الملتوي التوائات لا حصر لها.. نزلت محافظا على اتزاني فوق درجات السلم الرفيع بصعوبة بالغة.. هرولت على الرمال الناعمة بلا هدف ولا وجهة.. أريد أن أعرف مصير كلماتي المختفية.. هرولت حتى خرت قواي و فقدت وعيي دون أن أشعر بما حولي.. لا شيء حولي.

أفقت على شعاع الشمس يخرق جفوني و حرارته تصفع وجهي.. قمت منتفضا فوجتني مقابلا لطريق رسمت جانبيه تماثيل سوداء.. طريق بعيد و السير اليه سيأخد مني أبد.. سرت حتى أقتربت فتبينت التماثيل.. لم تكن حجرية.. كانت لأجسام بشرية مقيدة بسلاسل حديدة نبتبت من الأرض و غطتها من أسفل الرقاب و حتى أخامص الأقدام .. تقدمت و كلما سرت تحولت وجهتها نحوي.. تنظر الي مبتسمة.. سرت و استمر التتبع و الالتفاف نحوي.. اقتربت من أحدهم.. سألني: عندك مشكلة؟.. يكمن أساعدك
قصصت عليه ما جرى و انتظرت الجواب من عينيه الهادئة التي لا تحيدا عني.. تحركت أفواههم جميعا و في صوت واحد: عندك مشكلة؟.. يكمن أساعدك.. حكيت مجددا للجميع.. عندك مشكلة؟.. يمكن أساعدك.. استمروا في تكرار الكلمات ولا شيء سواهن، فاستكلمت طريقي بينهم و أفواههم لا تكف عن تكرار الكلمات.

لمحت على جانب الطريق و خارج حديه رجلا و امرأة مستلقيان كل منهما على سرير و ممسك بيد الآخر.. و حولهما عدد من الرجال ذوي بذات فخمة.. يمدون أيديهم في جوف الجثث المبتسمة و يخرجون أحشائهم.. قلبيهما.. كبدهما.. و كل ما تحمله أبدانهم.. يعبؤونها في حقائب جلدية نفيثة.. خلفهم طابور يقف من الرجال و النساء منتظرين دورهم في الاستلقاء.. مبتسمين و كل رجل و أمرأة تتشابك أيديهم.

تقدمت أكثر و لا أرى للطريق نهاية.. على جانبه الآخر.. أربع غرف ضيقة يتحرك بينهما رجل وقور.. يدخل واحدة فيصيح بكلام غير مفهوم ثم يخرج منها منهكا.. يدور الى الأخرى و قد تعافى تدريجيا.. تنطلق نفس الكلمات من فمه.. و الى الثالثة و الرابعة.. رجل لا تحمله قدماه.. بل هو مثبت على عجلتين تدوران على قضيب فلاذي يسوقه الى حيث سيكون.. و في طريقه الى الغرف الضيقة ملقى على جانبيه رجال عجائز يحملون قطع صخر ضخمة.. يقومون لتحيته بصعوبة ثم يستلقوا على السخونة الرمال مجددا.. يقومون ولا على وجوههم غير البسمة التي سرعان ما تختفي فور ابتعاده عنهم.

طريقي بدت نهايته.. خشيت أن تكون سرابا و لكن لم يكن بيدي أي حيل الا الاستمرار.. مشيت و كلما اقتربت ازدادت نسمة هواء سراعن ما تحولت لعاصفة تدفعني للخلف و تصدني.. تدفعني و أنا أقاوم.. حتى تبينته اعصار من الأوراق تهاجمني.. تلفحني و تصفعني.. تلتصق بي و تغطيني و تخنقني.. الأوراق أصبحت كتبا. ترتطم برأسي و تصيبني أصابات موجعة.

قذفت بي العاصفة عند نهاية الطريق و أمام واحة خضراء وحيدة في الخلاء.. خرجت منه بعد أن سال من رأسي الدم.. دخلت الواحة و تنسمت بهوائها.. مددت يدي المرتعشة الى البحيرة الصغيرة.. أخيرا سأروي ظمأي و أرتاح قليلا تحت ظل النخلة.. فعلت. غابت الشمس و عادت.. استمر بحثي عمن قد يساعدني في محنة الورقة التي كدت أن انساها.. وجدت مكتب خشبي ظهر فجأة على الجانب الآخر من البحيرة، تقف ورائه سيدة ثلاثينية أنيقة.. قصصت عليها ما جرى.. مدت يمناها بورقة ثم طلبت مني أن أملأها بما قصصت، و ظلت اليسرى مستترة خلف المكتب.. ظننتها عليلة. سألتها عن قلم فاعتذرت متعللة ب"القواعد".. كررت سؤالي متعجبا من علتها.. القواعد.. أرجوكي وضعي حرج جدا.. القواعد.. سألتها عن سلامة يدها في ريبة، فأجابات: القواعد!.

درت حول المكتب لأبحث في أدراجه بنفسي عن قلم.. لم تلتفت معي و لم تعترض طريقي و كأنها صنم بلا روح.. كانت يدها المستترة مغلولة بجنزير ثقيل ينغرس طرفه في الأرض تماما كحال التماثيل البشرية على جانبي الطريق.. ملأت الورقة و فرغ حبر القلم عند آخر كلمة كتبتها. أخذتها و وعدتني بالرد في أسرع وقت ممكن.. انتظرت أمامها بلا جلوس و هي بلا حراك.. الشمس غابت و أشرقت لم أدرك كم مرة فعلت.. الورقة أصفرت و ذبلت.. نطقت السيدة أخيرا ب: مافيش جديد، أسفة.. هممت بالاعتراض فهي لم تحرك ساكننا و الورقة لم يقرأها أحد.. لا أحد.. رفعت يدها المثقلة بالحديد قائلة: القواعد.. قبل ان تنسحب السلسلة بقوة انخلع لها كتفها داخل الأرض مجبرة يدها على النزول في مكانها الأزلي.

غابت الشمس.. عادت.. اختفت الواحة و المكتب و السيدة.. ظهر من باطن الرمال عقدة من سلسلة حديدة جديدة.. أمسكت بها متحملا حرارة جمرها.. جررتها، و خرج معها شريطها اللا نهائي.. ثم عشرات السلاسل.. ثم مئات.. لا أدي كيف قويت على حملها.. مشيت مع اتجاهها ممسكا اياها باحثا عن نهايتها.. تفرعت منها في اتجهات فروع قلائل لم أحوال تتبعها.. مشيت مع الكثرة فقادتني لطريق البشر المتصنمين مجددا.. عدت حيث أتيت باحثا عن الطرف الآخر.. السلاسل تتشابك كلها و تتصل بواحدة عظيمة لا أقوى على رفع عقدة واحدة منها.. فهي أكثر مني طولا و وزنها يقاس بالأطنان.. سرت بخطوات بلا عدد، صغيرة جدا بالنسبة لها.. مشيت و مشيت و مشيت.. ترنحت، و لما حاولت الاستناد على حديدها لفحتني حرارتها و حرقت يدي.. بدأت ترتفع عن الأرض.. ترتفع و ترتفع حتى اعتدلت صاعدا الى السماء في توازي مع مبني حديدي ضخم.. درت حوله لأبد و عكس اتجاه الرياه التي تعاندني.. المبنى بلا أي باب.. فقط مكعب عملاق في وسط الصحراء حفرت فيه حروف متفرقة دارت عل جوانبه الأربعة: دال تتبعها قاف على الجانب المواجه لي.. ثم (و-ا-ع) بالترتيب على الجوانب الأخرى.

فقدت الأمل في الدخول.. نظرت الى السماء تائها.. ثم نظرت الى السلسلة العظيمة متسائلا عن نهايتها.. الشمس تعميني كلما تتبعها للأعلى.. الآن هي ثابتة لا تغيب و لا تحيد عن كبد السماء!.. درت ماحاولا أن أضعها في ظهر المبنى.. مشيت ثانية لزمن لا نهائي، حتى بدأ نورها في الانخفات تدريجيا.

ظننت المبنى هو أعظم شيء.. فوجدت من هو أعتى و أكثر عملقة.. جسد اختفى نصفه الأعلى في رحم الفضاء.. لا أرى منه الا مؤخرة سمينة تجلس فوق البنيان الحديدي.. يتدلى على حوافه دهنها المستور لونه بقماش بنطال أسود.. و يد بعيدة في الجانب الآخر تمسك بالسلسلة و تعبث بها.. تسوقها يمينا و يسارا.. تضرب بها الأرض فتحدث زلزال يهتز له العالم. و مع اهتزازه تمطر السماء حقائب جلدية مماثلة للاتي كان يملأها الرجال بلحوم البشر.. تسقط، فترتطم بالأرض و تقيء ما بداخلها من حشى و دماء.. حقائب يوجد منها ألوف شكلت جبل شاهق على اليد الأخرى للبدن العملاق.

غابت الشمس.. سقط و نمت.. أفقت على صوت ينادي "الوقت خلص".. قمت من مجلسي لأصتدم بسقيع الغرفة.. و قد كنت آخر الموجودين في اللجنة.. أمسكت بالورقة الفارغة الا من العدم و سلمتها للمراقب.. وجهي بلا أي تعبير و كأنني لا أعي  ما يحدث.. أخذها و ذهب و اختفى.. و حل مكانه رجل سمين أصلع ميزت جيدا مؤخرته العملاقة.. ابتسم في برود و سلمني ورققة على جانبها صورة شخصية لي تفيد أني قد أتتمت تعليمي في هذه الجامعة.. نظرت اليها.. ثم رفعت عيني على يد تسحبها مني و تستبدلها بعقد ممضي فعلا باسمي.. سُحبت مني أيضا.. ثم اتمدت اليد لتصافحني، يدي مذهولة مشلولة لا تتحرك.. فهبطت هي لمتسك بساعدي المجنزر بسلسلة حديدية نبتت من الأرض.

Popular posts from this blog

الدور العشرين

من الزهور للجذور 4: بميعاد مسبق

على الجانب الآخر