الحيوان

لم يكن كابتن سيد السبع، اقدم أعضاء السيرك، حاضرا في الإجتماع الطارىء الذي قام به المدير. ورغم أن الكابتن هو مدرب الأسد غضنفر الذي تسبب مرضه المفاجيء بأزمة حقيقية لكل العاملين بالسيرك، إلا إنه كان آخر العالمين بأمر المدير لحل الأزمة. مرض غضنفر المفاجىء حل عليه قبل يوم واحد من بدىء العرض الأهم للسيرك في آخر عدد من السنوات. فبعد أن فقد السيرك المتنقل رونقه وسمعته، سواء بسبب تكرار العروض القليلة أصلا، أو بسبب استمرار نقص العارضين على مر الأيام واعتذارهم لأي سبب كان، خاصة لكبر السن، أو بدون أسباب أصلا لمجرد أنه صار موضة اقترنت بزمن فات؛ جائت فرصة محاولة احيائه من جديد بعد أن استقبل المدير هاتفا يعلمه أن قناة تليفزيونية مغمورة تود أن تنتج فيلما وثائقيا عن السيرك وتاريخه الذي لم يعش منه إلا غضنفر وكابتن سيد. بالإضافة إلى عدد قليل من عارضي الأكروبات الصغيرين والمتناوبين بخبراتهم القليلة على السيرك وأهله. وكان مهم جدا أن تصور القناة أحد العروض لا سيما وأن غضنفر سيكون موجودا وهو الأسد الذي انتزع بزئيره ساعات من التصفيق أيام العز. لم يود المدير تأجيل التصوير ولا العرض، خشى ألا تأتي ال

ضد الطبيعة

قد تكون الافكار مشتتة و بلا اي ترتيب.. فمن المستحيل اختذال عشرات السنين في صفحة أو حتى مائة.. و من المحال طباعة مشاعر على أوراق لاحصر لها ولو كان البحر لها مداد.

لم أر شخصا أو حتى شيئا يضاهيه في صلابته و صموده.. ذاك الصبي ابن الثامنة الذي خرج من قريته صوب العاصمة مع عمه و ابناء عمومته، باحثين عن عمل ولا يملك في جعبته الا ما حفظه من القرآن الكريم.. اشتغل كجامع محصول وناقل خبز و خباز و فران.. و مرت العقود و السنون لينتهي به المطاف و يكون واحدا من رواد صناعة الخبز و الطحن و تجارة المواشي في الجمهورية، و صاحبا لعدد من المطاحن و المخابز انتشرت بناياتها و انشطتها في 6 محافظات على الأقل.. عاد لبلدته عين أعيانها و أغنى أغنيائها.. حرفيا، لا أحد لا يعرف من هو الحاج و اسمه لا يخفى على الصغير قبل الكبير.. خيره على الجميع و هو حامل همومهم.. نفوذه على الكل.. وكلمته تنصت اليها كل الآذان.. و أوامره نافذة بلا نقاش.

لم أر مخلوق محب للنجاح و العمل و العلم كهو.. لم يؤت من العلوم الكتابية الا قليلا فكان أكبر مشجعي ابنائه و احفاده على العمل و التفوق..يسأل أولا بأول عن أحوالهم و مراكزهم و مراحل دراستهم.. يفخر و يبتاهى بهم و يعايرالحفيد بالحفيد.. ينهرهم و ينهر آبائهم ان علم بحدوث تقصير ما.. كان يجمعنا نحن العشرات من احفاده و يسألنا من أصغرنا حتى أكبرنا عن أعمارنا، و مع كل رقم يسمعه يتلو علينا شغلته و حرفته و هو في تلك السن.. و موقف و اختبار اجتازه بنجاح أو فشل في عبوره، خبرة كانت تزداد بتغير الدقائق و تعاقباها.. كان يرزق بحفيد جديد او بابن حفيد.. فيفرح به و كأنه الأول و يسأل عنه و يهتم و كأنه الأخير.
كان هو المحرك الرئيسي لكل تحركاتنا صوب بيت العائلة..كلمات أمي التي كانت تخبرنا بميعاد التجمع و سببه لم تكن تخرج عن "بابا مسافر عمرة، بابا مسافر يحج، بابا رجع من السفر، بابا رجع من البلد، بابا نازل يدبح" و أصبحت قاعدة لا جدال فيها ول ا تحتاج أمي لتذكيرنا بها كشروق الشمس من مشرقها، وهي التردد على المنزل أول أيام رمضان و العيدين.. حيث العيدية من الأموال التي كنا نعلم بحلول ساعتها ابان دخوله غرفته و خروجه منها ب"رزمة الفلوس"..فنتجمع حوله فرحين بما سيؤتينا.
اذكر جيدا قوة صوته الذي خسر الدهر نزاله معه فظل شامخا جهورا، و هو ينادي "يا ولد" فيهرول معظمنا نحوه منتظرين سماع أمره الذي يكون عادة "انزل هات فاكهة" و هو يدخل يديه في جيب "السيديري"و يخرجها بثمن يكفي ان يجعله صاحب الجنتين.. اذكر دعاباته و هو يصفع احدنا برفققائلا "يلعن أبوك لأبو أمك".

أذكر احتباراته المفاجئة و المحرجة أيضا التي كان يفتتحا ب"حافظ قد ايه من القرآن".. أذكر نظارته ذات العدسات العسلية و الإطار الذهبي و هي مستقرة على انفه مستعينة بأذنيه و هو يقرأ سورة الكهف كل جمعة.. والتي استغنى عنها و عن المصحف في جمعات لاحقة فكان يرددها قارئا اياها من على صفحات ذاكرته الفلاذية.

أذكر جلساته مع ابنائه للحديث في أي من أمر اشغاله التي ما كنت لأفهم اي من تفاصيلها.. اذكر ردودهم التي كانت تسبقها كلمة حضرتك أي كان المتحدث و اي كان سنه.. أذكر طاعاتهم و كلمة "حاضر يابا/يا ابويا" لأيمن أوامره.. فضلا عن عدم التدخين أمامه.

و اذكر حين رأيته لأول مرة ضعيفا صامتا جالسا على الأرض مجاورا لفراش جدتي و ممسكا بيدها حين داهما مرضها الأخير.. و للمرة الأولى أيضارأيت عيناه عارية من الصرامة حين دمعتا على فراقها.. منذ ذلك الحين انكسر في داخله شيء رسم على وجهه علامات شرود مهمومة.. انخفض صوته ليس بتأثير السن، فالزمن لا يشيّخالأبدان فجأة.

كان عائدا من سفره جالسا على يمين السائق.. أحد معارفه.و خلفه ببضعة كيلو مترات اثنين من ابنائه.. اتصل به أحدهم مرارا فلم يرد.. و أخيراعندما فعل، أخبره بهدوء ان حادث بسيط قد أصاب السيارة، و طمأنه عليه و أقنعه بسلامته..لكنها لم تكن الحقيقة.. لم يكن الحادث بسيط.. لم يكن الوضع مطمئن، و حاله لم يكنبالسلامة التي اوهمه بها.. كلمات لا يستطيع ان ينطق بها الا جبل صنوان لا يشعر بأيألم أصاب بنيانه و تسبب في احداث كسور بالغة.. كلمات خرجت هادئة بصوت واضح مسموع،لا هو يتألم لا بصرخة و لا بهوان و ضعف.. لا يتألم من الأصل أو لا يجهر به على أقلتقدير.. ثبات عجيب و قدرة تحمل كالألماس زرعتها سنون طوال و شقتها في نفسه عشرات المواقف الصعبة التي اجتازها فجعلته كبير عائلة لا أعلم بكم يقدر عدد أعضائها..كلمات ربما كانت آخر ما نطق به.. فلك ان تتخيل قوته في ترجمته لحادث أودي بحياته بالبسيط.

ذهب.. و ترك ورائه ثمانية ابناء اصغرهم ابن الرابعة والثلاثين.. 31 حفيدا تراوحت أعمارهم بين ال30 على ما أذكر و البضعة أشهر.. و بنتين اثنتين لأحد أحفاده.. بخلاف ابناء اخوته الذين اعتبروه أب قبل أن يكون عم و أخوه الكهل الذي فشل في حبس دموعه فاجهش بالبكاء و انتحب و انتفض لدموعه جسده، عندما رآه نائما نومته الأخيرة تاركا اياه وحيدا كآخر ابناء جيله.. كل هؤلاء و زيادة عليهم العديد ممن اتخذوه أبا روحيا لهم.. مهما اختلفت اعمارهم و مراكزهم.. معما تعددت،ضاقت أو اتسعد دائرة معارفهم.. مهما قوى أو ضعف نفوذهم، زاد أو قل علمهم، طالت أواقتصرت ثرواتهم.. شعروا بضربة قاصمة انحلت لها مفاصلهم و تفكك بتأثيرها عمودهمالفقري.. شعروا بيُتم مفاجئ رغم مسؤولية كل منهم عن بيت برمته.. بهوان و ضعف وانكسار حل بذهاب ربان السفينة و ربها.. و عمود الخيمة و مركزها.. و قبلة تجمع لايعلم الا الله الي اين ستؤول الأحوال بعد اختفائها.

و أخيرا، لا أعلم ما الذي ذكرني به و هو يدعو "..وذكركم الله فيمن عنده".. لا أذكر الموقف و لا اعلم متى قالها.. لكني علي يقين بقوله لها يوما ما في وجودنا.. ادعو لك بأن يرحمك الله يا جدي و يوسع مدخلك و يكرم نزلك.. و يهنأك بنعيم الفردوس بقدر عطائك و حبنا و حب الناس لك.. و حبك له و حبه لك.. و أدعو لأنفسنا بأن يذكرنا الله فيمن عنده.. بأن يذكرنا لله فيك.

أحمد فرغلي
16/6/2014

Popular posts from this blog

الدور العشرين

من الزهور للجذور 4: بميعاد مسبق

على الجانب الآخر