يوم جديد تناقضت فيه المشاعر, فكان هناك من يأس من الأستمرار, و هناك من اصر على المضى حتى و لو كان الوحيد, و هناك من تعقل و صبر حتى يوم يراه مناسب لنيل ما اراد...مظاهرات قليلة و اعداد المتظاهرين محدودة, نقابات معدودة أمامها قليل من أعضائها محاطون بجدار بشري أسود يهتفوت بصوت ضعيف يكاد المستمع التمييز بين الصوت و الآخر بوضوح, يرفعون لافتات صغيرة يستخدمونها احيانا في صد آشعة الشمس تحمل شعارات كتبت بخطوط و ألوان مظمة, و ورقات اخرى اصغر طُبع عليها شعرات مشابهة (تونس هي الحل) و شعار آخر وُجه لرئيسهم و اشتهر كثيرا فيما بعد (ارحل)...و يجاورهم ميدان خال الا من سيارات قليلة مسرعة و اخرى خضراء ضخمة تقف بجانب ارصفته, و آثار تدل على تجمهر ضخم كان يملأه منذ ساعات قليلة.
اشتدت حرارة الشمس حتى وصلت لذروتها, سكت من يهتفون سريعا و ان كان هتافهم ضعيف لا يكاد يحرك ورقة شجر, و سريعا بدأ جنود الأمن في مزاولة عادتهم, أوامر تصدر اليهم لا يسمها أحد غيرهم, فيلوحون بعصيهم و يرفعونها عاليا في الهؤاء ثم تهبط بقوة كقنابل على الأجسام مسببة آلام مبرحة مكان هبوطها...خطوط ملونة و كدمات واضحة و في كثير من الأحيان نزيف و كسور في مناطق عدة...هذه المرة لم تكتف الشرطة بعصى الأمن, بل استخدمت اسلوبا جديدا في اهانة المتظاهرين قبل القبض عليهم. رجال ضخام البنية, وجوههم قاتمة كئيبة تبعث الريبة, ارتسمت الشوارب الكثيفة بغير عناية على وجوههم المنتفخة تماما ككفوفهم, تتسرب رائحة عرق مكتوم من تحت ملابسهم المدنية الثقيلة ذات طبقات عديدة تغطي اجسادهم العريضة و بطونهم العالية قليلا, تفرقوا وسط المتظاهرين لكن شئ ما يفضح انهم ليسوا منهم, شيئ خلف قناعهم المدني يؤكد انهم (مخبرين). بدأ هؤلاء في مزاولة مهامهم مع بدأ حالة الفوضى, كفوفهم الضخمة تعلوا في الهواء ببطئ ثم تسقط على الرؤوس كنيزك هبط من الفضاء محدثا دمارا على كل مل يلمس, أرجلهم الكبيرة تركل الأجساد الضعيفة بالنسبة لهم, و لولا قبضتهم القوية على من يضربون لأنطلقوا لأمتار. ما أن يحكموا قبضتهم الفلاذية على ضيتحم حتى يجرونها لأحدى السيارات التابعة للشرطة مع ضربات في انحاء متفرقة بجسدها الى ان يلقوا بها في السيارة لتجد من شبههم يسب و يأمر و ينهي.
امتلأت السيارات ببشر مصدوم, لا يكاد يصدق أحدهم انه محبوس في تلك الصناديق المظلمة, لا يقوى أحد على الكلام أو الصياح, فكل من كانوا حوله في الشارع صحبوه داخل هذه الغرفة...كان في استقبالهم عدد قليل من المخبرين لا يتعدى الأربع أفراد, يرحبون بهم بأيد تطبل على وجوههم و السنة تسب اهلهم, يأمرونهم أن يظهروا حافظاتهم و هواتفهم المحمولة ليعبثوا بها قليلا و يفتشوها, يقرأوا كل ورقة كانت داخل الحافظة بعناية, قبل أن يرموها بوجوه أصحابها لكن تنقصها البطاقات الشخصية لدخل جيوبهم مع الهواتف...و ان وجدوا أحد بحوذته شريط لأقراص طبية يتهمونه في الحال أنه (بيبرشم) و ينال قسطا أكبر من وابل الأهانات. أُمر الجميع أن يجلسوا القرفصاء و أن يضعوا أياديهم خلف رؤوسهم و يوجهوا انظارهم الى ما بين أقدامهم, و من كان يحاول الألتفات أو التحدث أو يتعثر و هو يحاول الجلوس كان يركل و يصفع حتى يثبت في وضع يريح هؤلاء المخبرين.
ظل من في السيارة على وضهعم لساعت, يحاولون اختلاس نظرات سريعة لوافدون جدد يدخلون بأستمرار, ينالون ما ناله السابقين منذ قليل, وافدون دخلوا فرادى متفرقين, كثير منهم لم يتظاهر ان كانت المظاهرات اجرام, بل فقط مروا جانب تلك السيارات و شهدوا عمليات الأختطاف...تكدست العربة, و التصقت الأجساد ببعضها, لا يقوى أحد على التنفس بارتياح, فهواء ساخن يملأ المكان و رائحة خانقة تقتحم الأنوف, و عرق يتصبب يبلل الأبدان, و اتسعت الأعين محاولة اختلاس أي ضؤ طفيف ليتفهموا ما حولهم, لكن ضعفت آمالهم بعد انسحاب الشمس ململة خيوطها, تاركة ليل و قمر و نجوم لا يسعف لمعانها حاجتهم للنور.
نزل المخبرون و أغلقوا خلفهم الباب بأحكام, بدأ الكل يتحدث في آن واحد ساءلين عن مصائرهم, لا أحد يعرف ليجيب, و قليل صامت ما زال يفقد القدرة على الأستيعاب...صمت الجميع للحظات و شعروا بانقباض أرواحهم كأنهم ماتوا فجأة في آن واحد, صمت يخيم على ذلك المكان الضيق المكتظ, و لا يُسمع الا صوت محرك السيارة, و لا شعور الا زيادة في الخوف بعد أن بدأت تتحرك الى حيث لا يعلم أحد..
أحمد فرغلي
28/4/2011