الحيوان

لم يكن كابتن سيد السبع، اقدم أعضاء السيرك، حاضرا في الإجتماع الطارىء الذي قام به المدير. ورغم أن الكابتن هو مدرب الأسد غضنفر الذي تسبب مرضه المفاجيء بأزمة حقيقية لكل العاملين بالسيرك، إلا إنه كان آخر العالمين بأمر المدير لحل الأزمة. مرض غضنفر المفاجىء حل عليه قبل يوم واحد من بدىء العرض الأهم للسيرك في آخر عدد من السنوات. فبعد أن فقد السيرك المتنقل رونقه وسمعته، سواء بسبب تكرار العروض القليلة أصلا، أو بسبب استمرار نقص العارضين على مر الأيام واعتذارهم لأي سبب كان، خاصة لكبر السن، أو بدون أسباب أصلا لمجرد أنه صار موضة اقترنت بزمن فات؛ جائت فرصة محاولة احيائه من جديد بعد أن استقبل المدير هاتفا يعلمه أن قناة تليفزيونية مغمورة تود أن تنتج فيلما وثائقيا عن السيرك وتاريخه الذي لم يعش منه إلا غضنفر وكابتن سيد. بالإضافة إلى عدد قليل من عارضي الأكروبات الصغيرين والمتناوبين بخبراتهم القليلة على السيرك وأهله. وكان مهم جدا أن تصور القناة أحد العروض لا سيما وأن غضنفر سيكون موجودا وهو الأسد الذي انتزع بزئيره ساعات من التصفيق أيام العز. لم يود المدير تأجيل التصوير ولا العرض، خشى ألا تأتي ال

من الزهور للجذور 10: بنيران صديقة

في ظل اسمترار قطع وسائل الأتصال لليوم الخامس -ما عدا شركات المحمول أعادت خدماتها بتدرج- لعبت قنوات الأخبار الخاصة الدور الأبرز في نشر الدعوات (للمظاهرة المليونية)...فقبل الثلثاء الثاني في أيام الغضب, نشرت وسائل الأخبار انباء عن اعتزام القوى المعارضة تنظيم  مظاهرة مليونية تملأ الميادين و الشوارع, تعكس الرفض الشعبي القاطع لأستمرار الحاكم في منصبه, و بالفعل نجحت دعواتهم في تنظيم المظاهرة الأكبر حتى يومها.
 
أخذت الميادين تأخذ شكلا جديدا من الأستعدادات, لا سيما قلب القاهرة, ميدان التحرير...فقبل أن تشق شمس الثلاثاء ظلام الليل بدأ المعتصمون في تجهيز الساحة لأستقبال المتظاهرين, منصات قليلة و اذاعات بٌنيت بعيدة عن بعضها و استقرت في اركان الميدان, لافتات ضخمة كست المباني المطلة علي الساحة الواسعة, و مع دخول النهار انتشر متطوعون امام مداخل الميدان لنتظيم عملية الدخول التي بدأت من بكورة الصباح, و للتفتيش عن مندسين من جانب الحكومة قد يستثيروا العنف.
 
توافدت الأعداد الى الميدان بكثافة و العملية غاية في التنظيم...المتطوعون يسألون الوافدون اظهار تحقيق الشخصية و الأبسامة تكسو وجوههم, ثم يطلبوا ان يسلك كل من الذكور و الأناث المدخل المخصص لكل منهم, فيجد الداخل آخرين يستأذنونه في تفقد حقيبته –ان وُجدت- فقط للتأكد أنه مسالم كالآلاف التي تملاء الميدان...ثم يمر بآخرون مهمتهم شحن الصدور بالبهجة, فهؤلاء يستقبلون الوافدين بطبل و غناء, مرحبين بهم و مشيرون اليهم بأنهم هم المصريون. في الداخل عالم مدهش, كبير و واسع... حدوده مباني ضخم تكسوها لافتات عملاقة تسأل الرئيس الرحيل, يملأ ارضه مئات الألوف من البشر الساخطة على حاكمها تعجز العين عن رؤية أولهم أو آخرهم حتى أنهم ملأوا بين العمارات المحيطة بالميدان, يصيحون بصوت واحد اهتزت له النايات, رافعين لافتات منها المطبوع بعناية و منها المرسوم بيد فنان و منها المكتوب يدويا من قِبل شخص بسيط أمل ان يستجيب حاكمه للكلمة التي زينت بياض الافتة (أرحل). على بعض جوانبه منصات تشبه المسارح, يُخطب من عليها خطب تلهب حماس الثوار و تصيح في النظام ان يسقط, و اذاعات تذيع الاغاني الوطنية التي قلما وجد لها السامعين ثأثيرا في نفوسهم...قبل ذلك اليوم.
 
استمرت الأعداد تزداد دون توقف, حتى امتلأ الميدان و مداخله و الشوارع المحيطة عن آخرها, و أكتظت كفاة جوانبه بأعداد لم يتوقع أحد أن تستوعبها أرضه, و كأنها اتسعت لتستقبل تلك الأعداد التي تضاربت الأقوال في حصرها, فقيل أن هؤلاء لم يتجاوزوا الثمانمئة ألف, و أكد آخرون أن الثوار كسروا حاجز المليون.
 
لم يكن  ميدان التحرير إلا صورة مشابهة لمعظم ميادين البلاد الكبرى, فخرج الملايين في أنحاء مختلفة من البلاد لينتزعوا من حاكمهم شرعيته و اختيار البقاء في منصبه, و وضعه أما خيار واحد و هو الرحيل و ترك المنصب لمن يكون على قدر المسؤلية...مما دفعه لأن يطل عليهم بخطاب جديد.
 
ما ان انتهي الرئيس من القاء خطابه الثاني الذي أذيع مع انتصاف الليل, حتى حدث  انقسام قوي بين صفوف الشعب...كاد يقود ثورة الغاضبين الي الهلاك...فالكلمات  هذه المرة كُتبت بعناية, فاستهدفت مشاعر المصريين بدلا من عقولهم...فالرئس خرج بوجه جديد, بلهجة جديدة, تذكر اخوته المواطنون –كما حب وصفهم- بأنه عاش في أرض هذه البلاد خادما لثراها لأعوام, الذي سيموت ليدفن تحته...في  الأرض التي خدمها وقت الحرب و السلام...مفصحا عن  انه لم يكون ينتوي الترشح لولاية جديدة مكتفيا بما قدمه.
 
 انتهي الخطاب, و ظهر جليا الأنشقاق بين الصفوف...تأثر الملايين بالأسلوب الأبوي الذي  سمعته آذنهم...فجماعة تعاطفت, و أبوا أن يهان حاكمهم و ان يترك منصبه مجبرا...هؤلاء أزادوا من قوة مؤيديه و انضم منهم الكثير للمظهرات التي  تطابه بالبقاء...و أخرى رضت, فانسحبت من أرض الميدان و دعت آخرون  للعودة الي الحياة المألوفة و ترك المنصب للحاكم حتى تنتهى فترته و ترك فرصة لتحقيق الوعود,  معتبرين ما سمعوه انتصارا لا بأس به...و آخرون, لم تصب الكلمات الحسنة مشاعرهم الغاضبة, لم تؤثر على عزيمتهم, الا ان زادتها و زادتهم اصرارا على البقاء على موقفهم الرافض لكل الحلول الوسطى, معتقدين ان الخطاب خدعة للألتفاف على الثورة, فبقوا في أماكنهم, فالخيام منازلهم, و الميدان دولتهم الغاضبة.
 
*****
 
بدأ اليوم التاسع –الأربعاء 2 فبراير- و صلت الأهانات الأعلامية المصرية للثوار الى ذروتها, فبعد ان كانوا قلة مندسة تهدف لتشويه صورة المتظارين السلميين, تحول  كل من خرجوا الى عملاء لدول خارجية, و أصحاب أجندات و متبعين خطط محكمة رسمتها عشرات القوى التي اتحدت جميعها للنيل من مصر, و انهم مرتزقة, ليسوا الا مستفيدون من المبالغ التي يتقاضوها و وجبات ال(كنتاكي) للبقاء في أماكنهم, و أن آل الميدان تجار و متعاطي مخدرات نهارا, و ممارسي جنس ليلا...و وصل الخداع و التزييف الى صورة أشبه  بالمعتادة, فنشرت احدى الصحف القومية صورة من مظاهرات الملايين المعارضة تحت عنوان (الملايين خرجت تأييدا لمبارك)!...
 
عادت الحياة الألكترونية لطبيعتها, فبعد 5 أيام من العزلة, عادت كافة وسائل الأتصال, و عادت الحياة على (فيسبوك) لسابق حيويتها...ظهر الانقسام الذي أحدثه الخطاب الثاني على الصفحات, فأقوال تنداي بالانسحاب, و الأكتفاء بما تم حصده من وعود ينقصها الصبر لتتحقق, و آراء تدعوا الزوار للأنضمام لجماعة ميدان مصطفى محمود التي خرجت منذ يوم أو أكثر تؤيد الرئيس, و الباقون آمنوا أنهم على خطى ثابتة و يبعدون أمتار معدودة عن هدفهم الذي لن يرضوا له بديل...اسقاط النظام.
 
كان هناك آخرون مشتتي الأفكار, غير قادرين على بناء صورة كاملة أو رأي يصنع لهم موقفا محددا, فهم أحتاروا في وصف صانعي الأحداث, هل هو زعيم و قائد و بطل, أم مجرم فاسد و سارق و فرعون متكبر, هل سكان التحرير و الميادين الأخري ثوار و أحرار على استعداد ان يضحوا بأرواحهم لأجل حرية بلادهم و انتشالها من الفساد, أم انهم مرتزقة مخربون مجندون للقضاء على البلاد, هل مؤيدي الرئيس فعلا مؤيدون, هل خرجوا حبا و تعاطفا, أم خرجوا مأجورين من رجاله, هل الإعلام القومي هو اعلام السلطة أم اعلام الشعب, هل القنوات الخاصة تعمل هي الأخري بأجندات, أم بمهنية و حيادية...كلمات متقطعة ملأت رؤوسهم, أنصاف صور سبحت في فكرهم, هؤلاء هم أغلبية الشعب, طالما عاشوا (جنب الحيط)...ففشلوا الآن في اتخاذ موقف يخرجهم من جلد السلبية الذي طالما قُيدوا بداخله...ما كان أحد يتصور أن تكون تلك الأغلبية الصامتة هي المُحددة لمصير الثورة, فما حدث في ذلك اليوم دفعهم للخروج عن صمتهم, فصاحوا جميعا في وجه الجانب الذي تحققوا من فساده...
 
*****
 
في الميدان لم يكن الوضع هادئا, فخطاب الأمس أثار غضبهم, فاشتدت عباراتهم بلاغة, و أصواتهم قوة...هذا عندما كان الميدان ملكا لهم كما في الأيام السابقة, قبل أن يقتحمه آخرون, هادفون للقضاء على المعتصمين و ابادتهم.
 
الهتافات تعلوا و الافتات تملأ الأيادي, الأصوات المتوحدة تردد ما يذاع من فوق المنصات, لرجال ضعفت أصواتهم من كثرة الهتاف, فاستعانوا بالمكبرات...صمت الجميع بتدريج سريع, فصوت آخر تخلل هتافاتهم, صوت أخذ يقترب و يعلوا سريعا...صوت كأنه لقطيع من البغال تهرول مسرعة, كأنه لخيول هربت جميعها من محبسها تجري كلها بسرعة و في اتجاه واحد... و أصوت أخرى لرجال تصيح, و كأنها استجمعت قواها لتضرب ضربتها الأخيرة...أخذت الصورة تتضح, ظهر أصحاب هذه الأصوات, رجال وجوهها عابسة تقبض في آياديها على سيوف و سياط, تطيح بها في كل ما تراه أعينهم من فوق ظهور جمالهم و خيولهم التي يمتطوها, و عربات تُجر, تخترق الحشود التي اقتربت قبل لحظات محاولة التعرف على مصدر تلك الأصوات, فتدافع الناس يميمنا و يسارا, محتشدين خلف أسوار الميدان, محتمين بها, و الذهول يملأ أعينهم, فالمشهد أشبه بمعركة تاريخية يصورها فيلم سنيمائي, لكن هناك جيش واحد يملك الخيل و السلاح, و الآخر أعزل, يحتمي جنوده خلف أسوار قصيرة.
 
لم يطول الوقت حتى تيقن المعتصمين ان ذلك الهجوم من تدبير أنصار الرئيس, بعد أن سقطت بطاقة هوية من أحد المهاجمين تصفه أنه تابع لجهاز الشرطة....فكان ذلك كفيلا بشحن قلوبهم بالغضب بدل من الخوف...هرب الذهول من أعين الثور, فوقفوا جميعا و وثبوا من فوق الأسوار, ليبدأوا هم الآخرون هجومهم, فانقض منهم الآلاف على راكبي الجمال, غير مهتزين ولا مترددين من تلويحهم لأسلحتهم في الهواء, و بعد وقت, نجحوا في أسقاط بعضهم و القبض علهم, مما أجبر الباقون على الأنسحاب, قبل أن يبدأ البلطجية في تنفيذ الخطة البديلة.
 
انسحب أصحاب الخيول, و امتلأت البقعة مجددا بالثوار الذين تركوا محماهم خلف الأسوار, متقدمين بفضول غريزي يدفع الأنسان لتتبع ما أجبره على الهروب بنظراته, للتأكد أنه ابتعد تماما... لكنهم فوجئوا بسيل من الأحجار تملأ السماء قبل أن تسقط على رؤوسهم و أجسادهم...استغل البلطجية انسحاب فرسانهم, حتي بدأ المتأخرون في الصفوف في القاء الحجارة و أطلاقها على المعتصمين بغزارة, بوحشية و دون توقف, تهبط الأحجار كأنها مقذوفات مدافع و أصوات ارتطامها بالأرض لا تهدأ, و المعتصمون ينسحبوا, مهرولين, باحثن عن مكان للأختباء, للأحتماء من ضربات لا تتوقف...فما وجدوا الا شاحنات تحولت الى حواجز بين الطرفين.
 
بدأ الثوار في تجميع الأحجار, و قذفها الى حيث جائت و هم مختبئين خلف الشاحنات, فتحول المشهد الى معركة شرسة بطلتها الحجارة المتبادلة بين الطرفين...التراشق لا يهدأ, و الأصابات لا تتوقف, فتحول الميدان الي ساحة معركة, و موقع لعلاج الجرحى, الذين لم تنعهم أصابتهم من المضي في القتال, فكان يصاب منهم من يصاب, فيذهب ليعالج, ثم يعاود القتال, قبل أن يصاب مجددا, ثم يذهب لتضميد جراحه الجديدة, قبل أن يذهب و يعود و قد منعه الموت من الأستمرار في التعارك.
 
أستمرت المعركة طيلة النهار, حتى بعد أن خيم الليل لم تتوقف الأشتباكات, فمع ذهاب الشمس الى مستقرها تسلل البلطجية الى أسطح البنايات المحيطة بأرض الثوار, و بدأوا هجوما جديدا باستخدام القنابل الحارقة و قطع الأسمنت, محاولين حرق أصرار الثوار على الثبات في أماكنهم, و أصابة عزيمتهم على المضي في طريقهم...ظلت القنابل تقذف و الحجارة في تبادل, الى أن بزغ الفجر, حتى انسحب البلطجية من أرض المعركة, يائسين من تفريق من ظلوا يحاربون ليوم كامل و ليلة, تاركين ورائهم ميدان غطت دماء الثوار أرضه, مخلفين مئات الجثث الغرقة في دمائها, و أكثر من ألف جريح, عجز الأطباء الميدانيين في اسعاف معظمهم بشكل كامل...و تاركين آثار معركة طاحنة, من آلاف القطع الحجرية, و حطام و تكسير و فوضى تكفل الثوار في ازالتها بعد أن نقلوا جثثهم و داووا جرحاهم...وسط كل تلك الأحداث, التزمت قوات الجيش الحياد, لم تحرك ساكنا, لم تنصف فريق ضد الآخر, و لم تفض أشتباك عنيف أظهر الفراق بين من كان يدافع عن قضية يؤمن بها و بين من يدافع عن منصب لا يستحقه...بين من كان يدفعه ضميره للمضى, و من كان يسوقه رئيسه و ما يتقاضاه, من ضحي بحياته لأجل بلده, و من ضحى بحياة بلده...معركة أخيرة كانت كفيلة برسم صورة واضحة للنهاية, بكتابة المشهد الأخير, بنقل النظام الى آخر مثوى له,  و و  وضع أولى أحرف كلمة ستلتصق به الى لأبد (السابق).

أحمد فرغلي 
21/8/2011

Popular posts from this blog

الدور العشرين

من الزهور للجذور 4: بميعاد مسبق

على الجانب الآخر