الحيوان

لم يكن كابتن سيد السبع، اقدم أعضاء السيرك، حاضرا في الإجتماع الطارىء الذي قام به المدير. ورغم أن الكابتن هو مدرب الأسد غضنفر الذي تسبب مرضه المفاجيء بأزمة حقيقية لكل العاملين بالسيرك، إلا إنه كان آخر العالمين بأمر المدير لحل الأزمة. مرض غضنفر المفاجىء حل عليه قبل يوم واحد من بدىء العرض الأهم للسيرك في آخر عدد من السنوات. فبعد أن فقد السيرك المتنقل رونقه وسمعته، سواء بسبب تكرار العروض القليلة أصلا، أو بسبب استمرار نقص العارضين على مر الأيام واعتذارهم لأي سبب كان، خاصة لكبر السن، أو بدون أسباب أصلا لمجرد أنه صار موضة اقترنت بزمن فات؛ جائت فرصة محاولة احيائه من جديد بعد أن استقبل المدير هاتفا يعلمه أن قناة تليفزيونية مغمورة تود أن تنتج فيلما وثائقيا عن السيرك وتاريخه الذي لم يعش منه إلا غضنفر وكابتن سيد. بالإضافة إلى عدد قليل من عارضي الأكروبات الصغيرين والمتناوبين بخبراتهم القليلة على السيرك وأهله. وكان مهم جدا أن تصور القناة أحد العروض لا سيما وأن غضنفر سيكون موجودا وهو الأسد الذي انتزع بزئيره ساعات من التصفيق أيام العز. لم يود المدير تأجيل التصوير ولا العرض، خشى ألا تأتي ال

من خلف الشرفة


"مستوحاه من فكرة لصديق أسمه أيمن مصطفى"

قبض بيديه النحيلتين على عجلتى مقعده و دفعه بقوته الضعيفة، فدارت ببطئ و تقدم بمجلسه نحو نافذته المغلقة. عض على شفتيه مستصعبا و هو يمد ذراعه المرتعش الثقيل، رافعا إياه نحو الستار لتنحيته، ثم ادارة المقبض و سحب الدرف الزجاجية و إدارة آخر و دفع جزء صغير من الساتر الخشبي يسمح بعبور خيط رفيع حاملا لما يحمل من ضوء شمس و قليل من ضجيج الشارع، و يعطي له مساحة كافية يجول من خلالها بنظراته مستعينا بشوافته المعظمة في مراقبة ذلك الشاب.. مساحة تتيح له الرؤية و تستره فلا يلحظ من يتابعه وجوده ولا احد من المارة.
كان يخرج يوميا من نفس العقار الذي يقطنه ذاك الرجل العاجز في ذات الساعة دون دقيقة تأخير أو بكورة.. يخرج بخطي ثابتة على اتساعها و جسد واثق يحمل صدر يمتد ليمتلئ بالأمل مع كل ذرة هواء تدخله.. يخرج بوجه مستدير متورد يبحث في كل يوم عن بداية جديدة تدفعه خطوة ابعد عن تلك التى انهى بها يومه السابق.. يخرج و يسحب في إثره تلك الأعين التي انتظرته فتتبعه أينما ذهب و أينما خطى.. أينما وجد لن يكون ابدا بعيدا عن مرماها.
صوبهما نحوه فوجده كعادته انيق لا يجرؤ ثرى المدينة أن ينال من هيئته أو هيبته شيئا، لا يجرؤ حتى ان يشوب أو يخالط سواد حذائه اللامع و بياض قميصه المنطلق في أعين المارة.. وجده يسير كما المعتاد لمسافات تقطعها السيارات في دقائق عدة. يمشي فيدخل هذا الشارع الطويل و يسلك ذلك المنعطف لآخره.. ما الذي يحمله على هذا المجهود و يبدو على حاله اليسر؟.. يصافح هذا و يلوح لهذه، ينحني لسيدة و يقبل طفلة، يحنو على محتاج و يساعد عاجز.. الى ان يصل مكان عمله فينال استقبال راق من وجوه ارتسمت عليها الابتسامات، يبادلها و تبادله التقدير و المحبة. يراه و هو منهمك يحفر و ينقب عن نجاح جديد يبروز في اطار ذهبي و يضاف الي حائط بطولاته. يرى مديره الذي يستدعيه و فيملى عليه كلمات الإطراء و التشجيع و المديح و الإعجاب، قبل أن ينتهي من اشغاله دون آثار تعب أو إرهاق فينزل مسرعا مفضلا درجات السلم عن المصعد متحركا بنفس الخطى الصباحية الى ان يصل الى أحد الكافيهات.
بالرغم من بعد المسافة التى تخطت حدود شارعه العريض و حيه الكبير، و بالرغم من الزحام و التصاق الأبدان و اختلاط الوجوه و الألوان، إلا انه يستطيع رؤيتها بوضوح يقصي الجميع من الصورة و يبقيها. يعرفها جيدا و لا يخطئ جمالها و لو وسط ألوف البشر، يشاهدها تنتظر دون ملل أو ضجر أو حتى دون أن تختلس نظرات متكررة لساعتها الذهبية الملتفة حول ساعدها الابيض الصغير.. يعرفها تماما كما يعرف صديقها الذي تنتظره في مكانهما اليومي المعتاد.. لا يطول الوقت عليها ابدا، فقط دقائق و تراه يدخل عليها بأسنانه المبتسمة البيضاء و بقميصه المحتفظ بهيئته بعد يوم عمل لم يكن شاق بالنسبة له.. ساعتين أو أكثر قليلا يتبادلان فيهما الحديث و الضحكات على كوبين من الشاي الساخن، فيسمعهما ذلك الذي في شرفته و كأنه يجلس بينهم. ينقضى الوقت بسرعة و تنسحب الشمس في هدوء، فيأخذ بيدها الدقيقة الناعمة قاصدا إيصالها لمسكنها، فتهدأ خطواته هذه المرة لتواكب مشيتها، ولا تعود لسابق قوتها حتى بعد أن يتركها إلا في نهاره الجديد.
توجه عائدا لبيته بعد يومه الطويل، لم يكن يقترب من أعين المراقب في رجوعه، فهو لم يبتعد عنها من الأساس، فقط اختفى عندما تخطى حدود الشرفة داخلا المبنى و اختفت معه وقع خطواته، فلم يُسمع صوت لأقدام تخطو في الفناء، لا صوت لحذاء يرتطم بالدرج أو بالأرض، لا صوت لمصعد يتحرك و لا لمفتاح يستدير في باب فيفتحه و يُغلق بعد الدخول.. فقط اختفى، و مع اختفائه وضع نظارته المكبرة جانبا و التف بكرسيه الذي التصق به لأعوام بثقل مؤلم و بطئ شديد، ليرى هذا الشاب مواجها له.. و قد ذهبت الخدود الممتلئة و برز مكانها العظم، اختفت حمرة وجهه و استبدلها الشحوب، و ماتت نظرة الأمل و حل محلها يأس قاتل، تبدد الشعور بالقوة و تفشى الأحساس بالعجز. كل هؤلاء اجتمعوا ليكسوا خصلات في رأسه الأربعيني بالشيب قبل حلول معاده و شق تجاعيد و كسور في بشرته قبل الأوان. ظل مواجها له لا يتحرك، ظل محدقا لا يحيد عينيه، ظل ناظرا، متفحصا، متأملا في شفقة ذلك الوجه الذي لو كان رآه قبل سنين مرضه لما عرفه.. لو كان رآه في مرآه أخرى لما صدقها..


أحمد فرغلي
11/9/2013

Popular posts from this blog

الدور العشرين

من الزهور للجذور 4: بميعاد مسبق

على الجانب الآخر