الحيوان

لم يكن كابتن سيد السبع، اقدم أعضاء السيرك، حاضرا في الإجتماع الطارىء الذي قام به المدير. ورغم أن الكابتن هو مدرب الأسد غضنفر الذي تسبب مرضه المفاجيء بأزمة حقيقية لكل العاملين بالسيرك، إلا إنه كان آخر العالمين بأمر المدير لحل الأزمة. مرض غضنفر المفاجىء حل عليه قبل يوم واحد من بدىء العرض الأهم للسيرك في آخر عدد من السنوات. فبعد أن فقد السيرك المتنقل رونقه وسمعته، سواء بسبب تكرار العروض القليلة أصلا، أو بسبب استمرار نقص العارضين على مر الأيام واعتذارهم لأي سبب كان، خاصة لكبر السن، أو بدون أسباب أصلا لمجرد أنه صار موضة اقترنت بزمن فات؛ جائت فرصة محاولة احيائه من جديد بعد أن استقبل المدير هاتفا يعلمه أن قناة تليفزيونية مغمورة تود أن تنتج فيلما وثائقيا عن السيرك وتاريخه الذي لم يعش منه إلا غضنفر وكابتن سيد. بالإضافة إلى عدد قليل من عارضي الأكروبات الصغيرين والمتناوبين بخبراتهم القليلة على السيرك وأهله. وكان مهم جدا أن تصور القناة أحد العروض لا سيما وأن غضنفر سيكون موجودا وهو الأسد الذي انتزع بزئيره ساعات من التصفيق أيام العز. لم يود المدير تأجيل التصوير ولا العرض، خشى ألا تأتي ال

من الزهور للجذور 5: الجولة الأولى

مع انسحاب آخر خيوط النهاربدأ يظهر الاجهاد على المحتجين, فبعد يوم طويل من السير و الوقوف و هتاف يبعث الحياة في قلوب رضت بالموت, بدى عليهم حاجتهم للراحة, فخفتت الأصوات تدريجيا, و توزع من تظاهروا يوما لعدة أماكن داخل الميدان و قد عزم معظمهم على المبيت معلنين الأعتصام بأجل غير محدود حتى يأتيهم رد يرضي طموحاتهم. منهم من ملأوا حديقة الميدان مُستلقين طامعين في شئ من الاسترخاء, و منهم من جمع أموالا و ذهب لشراء أطعمة ليقوم بتوزيعها, و منهم من ذهب ليأتي بالخيام و البطاطين, و منهم من طافوا الميدان مرددين (الجدع جدع و الجبان جبان, بينا يا جدع هنبات في الميدان), و منهم من فتح مجالا للحديث مع ضباط الأمن ليقنعوهم أن من تظاهر معهم و ليس ضدهم, و ينادي بحق هو لهم و ليس للمدنيين وحدهم, وسط ردور أفعال بدت مُرحبة من الشرطيين و واعدة بأنهم لن يتعرضوا للمتظاهرين حتى لو جائتهم أوامر بالضرب, و وسط ثقة بصدق رجال الشرطة... لكن لم يمر كثير من الوقت حتى كشفت افعالهم وجوههم الخادعة, و وعودهم الكاذبة.
انتصف ليل القاهرة, و سكنت الأصوات الى حد كبير, فقط اصوات متباعدة لحلقات سمر تتفرق في حديقة الميدان, و يفصلها أجساد منهكة غلب النوم أصحابها لا تقلقها كلمات المتسامرين ولا يقرصها برد ولا سقيع. كانت الأجواء دافئة فيما بين المعتصمين, وجوه باسمة مرحبة بكل من ينضم و مودعة كل من يذهب متوقعة رؤيته غدا لأستكمال المسيرة, وجوه لم تستأثر بشئ دون أن تشارك به من يجاورها, تبعث الأطمئنان في كل عين تنظر اليها ماحية اي صور سابقة عن الثائر العابس المخرب, وجوه مسالمة فقط مع من يجنح معها للسلم, مطمئنة بوعود  حسبوها صادقة بالحماية و التأمين, لكن من وعودهم كذبوا, كشروا عن أنيابهم راسمين وجها قبيحا عكر صفو المعتصمين, مستخدمين قوة لا تكافئ خصمهم الذي أقسموا كذبا على حمايته,  فأطلقوا طلقات غاضبة في الهواء أرهبت الآمنين و أفزعت النائمين, و سيول من القنابل ملأ دخانها الكثيف سماء الميدان لتخنق و تضيع بصر الجميع, و هجوم بالعصي على أناس عُزل, ليتحول المشهد من الآمن الى المرعب, من الهدوء الى العشواءية, من السكون الى الازعاج و الضوضاء.

 مئات يركضون في كل ارجاء الميدان, محاولين كتم أنفاسهم خوفا من استنشاق الدخان, باحثين عن مفر للهروب وسط حصار أمني محكم لكل شارع يحيط بالميدان, الى ان وجد منهم المنفذ ظانين أنهم هربوا, لكنهم وقعوا في مكيدة من تخطيط الجيش الأسود. وسط حالة الهلع و الخوف و احكام قوات الأمن أغلاق كل مخارج الميدان مضيقين الخناق على المعتصمين, بدأوا يفتحوا طريقا واحدا سامحين لعدد بالفرار, و بعد دقائق قليلة أغلقوه و فتحوا آخر, ثم منعوا بعض الفارين سامحين لهم بالهروب من مخرج مجاور...و هكذا الى ان تم اخلاء الميدان في دقائق معدودة. ظن من ترك ساحة الميدان انه نجى من بطش الشرطة, لكن فوجئ الجميع بمطارادات مستمرة بقوة لتفريق حتى من تم فصلهم عن الجماعات الأخرى, بعصى و وابل من قنابل و سباب منوع ضد أناس لا يملكون كلهم القدرة الهروب, فأصاب الكثير الأغماء, و أصيب أخرون بكدمات و جروح بعصي من ظنوا أنهم في خدمتهم, و بدأت الأيادي الخبيثة في جذب الأعداد بعنف و تعبئتها في سيارات خضراء ضخمة تصدر رنينا عال و ضوئا برتقالى مزعج من أعلاها.

امتلأت السيارات و انطلقت الى حيث لا يعلم أحد...خلى الميدان و أصبح كغرفة ظلماء مهجورة, يرن به دبيب القدم و تعاقب الأنفاس, و انتهي يوم طويل في دقائق معدودة, يوم كان يوصف بالجميل حتي شوهه أصحاب اللباس الأسود.

*****

كانت الأحوال في بيوت  الأهالي على نقيض تام...هدؤ و اطمئنان, غير قلقين على شبابهم, فهم ظنوا ان هذه المظاهرات حدث صغير و اعتقدوا انهم تركوا الحرية لشباب يعبر عن رأيه ثم يعود ليلا مكتفي بما اضاعه من صوت شاكين في قدرتهم على بلوغ هدفهم و تحقيق التغيير اللذي يصيحون من اجله, و ازاد من هدؤهم الأساليب المعهودة في اخفاء الاحداث من اعلام يتحدث بلسان و رأي واحد. تجاهل تام لما حدث, فكل القنوات المصرية كانت تعرض افلاما عن الشرطة في يوم عيدهم. اما الصحف اعطت مساحة ليست صغيرة لتغطية لحدث, لكن بصورة مشوهة و مناهضة لما وقع, فالعناوين الحمراء الكبيرة اتهمت المتظاهرين بالقلة المخربة التي تهدف للنيل من مصر, و ان جهات خارجية و جماعات داخلية معلومة وراء تلك التظاهرات تمول و تدفع بهدف القضاء اسقرار البلاد و احاديث عن ان شعب مصر واعٍ لن ينجرف وراء من يحاولون دفعه للمطالبة بحقوقه...و صورا لشوارع تخلوا من الحياة معلقين ان الهدؤ يغمر تلك الشوارع...اين ساكني هذه الشوارع الخاوية؟ لماذا تركوها و الى اين اتجهوا؟...لم تذكر الصحيفة انهم تجمهروا في احد الميادين المجاورة.

اكاذيب عن شباب برئ, و روايات عن كيفية تمتعهم بكل حقوقهم في التظاهر الى ان بدأوا بمهاجمة الشرطة, فكان عليها ان  ترد بالدفاع!...و اتهمات عدة, تلخصت في انهم (قلة مندسة).

أحمد فرغلي 
13/4/2011

Popular posts from this blog

الدور العشرين

من الزهور للجذور 4: بميعاد مسبق

على الجانب الآخر