الحيوان

لم يكن كابتن سيد السبع، اقدم أعضاء السيرك، حاضرا في الإجتماع الطارىء الذي قام به المدير. ورغم أن الكابتن هو مدرب الأسد غضنفر الذي تسبب مرضه المفاجيء بأزمة حقيقية لكل العاملين بالسيرك، إلا إنه كان آخر العالمين بأمر المدير لحل الأزمة. مرض غضنفر المفاجىء حل عليه قبل يوم واحد من بدىء العرض الأهم للسيرك في آخر عدد من السنوات. فبعد أن فقد السيرك المتنقل رونقه وسمعته، سواء بسبب تكرار العروض القليلة أصلا، أو بسبب استمرار نقص العارضين على مر الأيام واعتذارهم لأي سبب كان، خاصة لكبر السن، أو بدون أسباب أصلا لمجرد أنه صار موضة اقترنت بزمن فات؛ جائت فرصة محاولة احيائه من جديد بعد أن استقبل المدير هاتفا يعلمه أن قناة تليفزيونية مغمورة تود أن تنتج فيلما وثائقيا عن السيرك وتاريخه الذي لم يعش منه إلا غضنفر وكابتن سيد. بالإضافة إلى عدد قليل من عارضي الأكروبات الصغيرين والمتناوبين بخبراتهم القليلة على السيرك وأهله. وكان مهم جدا أن تصور القناة أحد العروض لا سيما وأن غضنفر سيكون موجودا وهو الأسد الذي انتزع بزئيره ساعات من التصفيق أيام العز. لم يود المدير تأجيل التصوير ولا العرض، خشى ألا تأتي ال

من الزهور للجذور 7: غضب و دماء

عرق كثيف يتخلل عيون جاحظة, يتصبب على وجوه التصقت بفتحات صندوق السبارة الصغيرة...اصوات انفاس متسارعة و كأنها لعداء اتم لتوه سباق ماراثوني طويل, ضربات قلوب مضطربة و نظرات تتابع شوارع تنسحب للوراء, تودع عالم واسع و تستقبل آخر تتوقعه ضيق خانق, مؤلم و مرعب...نظرات من أعين هرب منها بريق أمل النجاه و الهروب...ببطئ.

اسقرت السيارت و اغلقت خلفها بوابات حديدية كبيرة, اصوات تأمر بالنزول بانتظام, أصوات اخرى تحصي الأعداد و ايادي تدفع المختطفين الى ساحة كبيرة أمام مبنى عريض يشبه المدارس الحكومية, كلمات ذهبية ضخمة تغطي جزء لا بأس به من أحد طوابقه , تفيد أنهم بأحد معسكرات تدريب جنود الأمن المركزي, التابع لوزارة الداخلية...جنود عزل بملابس نومهم يشكلون سورا بأياديهم المتشابكة, يتبعه الزوار الجدد ليجدوا منامهم...غرفة واسعة خاوية الا من البرد و التراب و جردل صغير في أحدالأركان لقضاء الحاجة...كانت ساكنة لم تطأ أرضها أقدام منذ أيام, تدخلها أجساد منهكة و صدور ملأها الخوف فضاقت بأصحابها.  صوت احتكاك الأقدام بالأرض لا يسكن, ظل الداخلون يتزايد عددهم بلا توقف حتى بعد ان شقت الشمس ظلام الليل, فسيارات جديدة تأتي كل ساعة من أماكن عدة, تفرغ حمولتها ثم تنطلق لتاتى بآخرين.

مع الضحى, اختفت كل الأصوات الخارجية, و أغلقت أبواب عنابر امتلأت عن آخرها, ظلت مغلقة ليوم جديد بأكمله, حتى انتصفت اليلة الثانية,  ففتحت ليدخل رجال تعطيهم نجوم و نسور ذهبية على اكتافهم هيبة اسكتت اصوات الحديث المتداخلة, واعدين الزائرين بالرحيل خلال ساعات لكن بعد التحقيق معهم. استمرت تلك التحقيقات لساعات ,مع من قضوا ليلة مرت أهون بكثير مما توقعوا, و بعدها أُذن لكثير بالرحيل,و أُمر آخرون بالبقاء.

شعروا أنهم نجوا و استردوا حريتهم, و أن تلك الليلة مرت كأسبوع أو أكثر, حاولوا معرفة ما دار بالبلاد وقت ما كانوا معزولين عنها, فوجدوا أنهم لم يكونوا الوحيدين ممن القي القبض عليهم, بل أنها عمليات منظمة جرى تنفيذها في كل البلاد, اختفى على اثرها الآلاف..الآلاف التى خرجت أكثر عزما على المشاركة بجمعة الغضب.

****

يوم جمعة بدى مختلفا عما سبقه., و ان كان هدؤه معتاد, الا ان هدؤ تلك الساعة كان الهدؤ الذي يسبق العاصفة.
بدأ كلا الطرفين يأخذ استعداده....الحكومة تقطع كافة وسائل الأتصال, محاولة قتل اي فرصة لنشر اماكن التجمع...تغلق طرق المؤدية للقاهرة و تمنع كافة رحلات القطارات المتجهة اليها, مخافة احتشاد اعداد تبتعد عن حدود سيطرة قوات الشرطة...تلك السيارات الخضراء الضخمة تخترق الشوارع الخاوية مسرعة لتستقر محيطة بكافة المساجد و الميادين الكبيرة...جنود الأمن المركزي يهبطون من تلك السيارات في تشكيلات منظمة و كأنه عرض عسكري, اصوات احذيتهم الكبيرة المسرعة و هي ترتطم بأسفلت الميادين بانتظام و اصوات ال(هم هم هم) التي لا تتوقف حتى بعد ثباتهم في اماكنهم.

على الجانب الآخر, المصلون استعدوا للصلاة مبكرا...يتجهون اكثر بكورة من كل جمعة, شنط محملة بزجاجات المياه و المسكنات تغطي ظهورهم, يتفقدون اوجه بعضهم البعض في اطمئنان, و حماس يزداد مع ازدياد الأعداد...قلوبهم قلقة و رؤوسهم لا تنشغل الا بحرب ستبدأ فور فروغهم من الصلاة...امتلأت المساجد عن آخرها, كذالك الساحات الخارجية وسط حراسة الجنود...الخطبة بدت واحدة في كل المكبرات...بدت عامة متوازنة, تتحث على حرية التعبير فى كافة المناسبات, و تتحدث عن الظالمين بشكل عام و عن عقابهم, دون التحدث بوجه خاص عن احوال البلاد...طالت الخطبة و لم يشعر أحد, دعت الأئمة الله ان تبتعد مصر عن الأزمات, و ان يرى ابنائها الحق حقا فيتبعوه, و الباطل باطل فيجتنبوه...قام المصلون لصلاتهم, لصلاة صلوها كالأخيرة, أطالوا سجودهم و صدقوا في دعائهم.

تحركت النواصي يمينا فيسارا...سريعا بدأ الهتاف من شاب كان من أول من دخلوا المسجد...هناك من رد ورائه و هناك من اكتفى بالنظر اليه...الى ان نطق لسانه بما استفز الجميع فعلى صوت كل من بالمسجد و خارجه...احمر وجهه و انتفخت عروقه و هو يصيح (يسقط يسقط حسني مبارك) و الكل يصيح في تكرار...حاول المتظاهرون ترك ساحات المساجد, لكنهم اصتدموا بجنود لم تترك سلاحها و لم تجلس طيلة الصلاة, جنود تختفي خلف دروهعا الشفافة و خوذها السوداء أجساد نحيلة و وجوه حولت الشمس بشرتها الى لون اسمر ملتهب...وجوه بدت منهكة من سهر ثلاث ليال متعاقبة...وجوه بدت بسيطة بلا شخصية...وجوه تقول (أنا عبد المأمور)... أسوار و سدود تلك الجنود بدت متعبة تماما كما كانوا, فنجح المتظاهرون سريعا في اختراقها متجهين الى الشوارع العريضة.

لم تكن المساجد وحدها نقاط التجمع...في يوم لم تعتد فيه استقبال تلك الأعداد الكبيرة, فتحت الكنائس ابواوها لأبنائها, منتظرين ساعة التحرك, حتى ينضموا لمن على  الجانب الآخر...فبعد ان انتهت الصلاة, بدأت المساجد و الكنائس تضخ ما بصدورها حتى نجح الطرفين في التجمع و الاختلاط. شئ فطري يوجههم الى مكان ما ليجدوا جماعة اخري, فينضموا اليهم, ثم الى آخرون, ثم الى الميادين الواسعة...حيث أرض المعركة.

سيارات الأمن و جنوده تبعد عن المتظاهرين بعدة أمتار, سريعا بدأوا بقذف عشرات القنابل الغازية, انتشر دخانها الكثيف حتي اخنق الجميع حتى الجنود انفسهم تأثروا, ثم استخموا حيلة ازادت من اضعاف خصمهم...انطلقت المدرعات الضخمة فاتحة رشاشات المياه, تقذفها بقوة...ما ان يخلط الماء بالوجوه المختنقة  بذلك دخان حتى يسبب الم شديد يشعر المصاب بهما ان وجهه يحترق و ان عيناه اوشكت على فقد بصرها... لم تفلح كماماتهم في تقليقل من تأثير الغاز الخانق, فانسحب الناس مسرعين الى كل ما يجدوه من منافذ, بسرعة قلت الأعداد متجهة الى الشوارع الجانبية تبحث عن مكان تستتر به حتى تستعيد قواها مرة أخرى...فبدىت الميادان خاوية, زحامها طبيعي لا يعبر عن اي تظاهرات, فقط تحركات الهروب العشواءية و الفوضوية هي ما تبقى.

تفرق الجمع دون مقوامة تذكر الى شوارع بدت آمنة هادئة...نفوسهم أصيبت بشرخ اعاد للرؤوس المشهد الأخير يوم ال25, خوف يسيطر على العقول من تكرار نفس السيناريو, يصارعه أمل في انهم على الطريق الصحيح و انه هذا هو اليوم ليحققوا فيه ما يضحوا بأرواحهم لأجله...بدأت الهتافات تظهر من جديد من حناجر صغيرة, تحاول اشعال حماس السكان و المتفرجين للأنضمام, تتحرك الأيادي و تعلو الافتات, يتبادل السائر مع الواقف نظرات يدعوه بها للأنضمام و عدم الخذلان...اخذت الأعداد تتزايد ببطئ غير ملحوظ الى ان تحول المشهد في دقائق, دفع المئات للتحرك بسرعة...تجار يتركون محالهم يقومون بتوزيع زجاجات عصائر و فاكهة على المتظاهرين ثم ينضموا اليهم, صيادلة يركضون محملون بادوات الأسعافات الأولية و المسكنات تحسبا للأصابات, سيدات تترك منازلها و تفرق زجاجت المياه و مكعبات السكر و النشادر لمساعدة من فقد وعيه, شاب يوجه والده العجوز المتكأ, طفل ينسحب مع يد أبيه, سيدة تجذب ذراع زوجها, شاب يدفع صديقه و صبى يحمس رفيقه...لينضموا جميعا الى جماعة الثوار.

زادت الأعداد دون ان يعلم أحد ان من تفرقوا منذ دقائق عنهم قد فازوا هم الآخرون بمئات من البشر...تحددت اتجهاتهم الى الساحات الواسعة مرة أخرى, مسرعين, متخيلين ان من تركوهم ضعاف مشتتون في أمس الحاجة لتجمعات تصلب ظهورهم من جديد, الا انهم فوجؤا انهم ليس الا كتيبة صغيرة تنضم لحافل جيش عظيم منظم...يتقدمه رجال تتشابك مع دروع و عصى عساكر الأمن بأذرعها, ثم يتوسطه آلاف الرجال يحيطون بمن لا يستطيعون التشابك من نساء و كبار السن يهتفون بأصوات جهورة تبدوا و كأنها ليست لهم, على جانبيه من يقوم بتوزيع زجاجات الخل للمساعدة على القضاء على تأثير قنابل الغاز, و في آخره البعيد عن أوله, اسعافات سريعة لمن أصيب, فمنهم من يقوم مسرعا الى المقدمة, و منهم من انتقل الى مثواه الأخير في مظاهرة تمناها سلمية.

تفوق واضح ظهر مع عصر اليوم الثالاث للأحتجاجات لصالح الثوار, أعدادهم الكبيرة ملأت الشوارع و الميادين, تخطت بآلاف عديدة عدد قوات الأمن فأصبحوا هم المسيطرون و المحاصرون, حتى اختفى معاني كلمة تفرقة,حتى تلك القنابل تحولت الى هدف يتسابق الناس على الوصول اليه ليقذفوها بأياديهم الى حيث جائت…بدأ يظهر العجز في صفوف الأمن, لم تعد منظمة كما كانت, لم تقوى العساكر على الأشتباك, بدأوا يتدافعوا الى الخلف, هاربين من الساحات, محاولين البحث عن آمريهم ليعطوا لهم أية تعليمات, فهم لم يعتادوا تلك المواجهات العنيفة, لم يتوقعوا مواجهة تلك الأعداد الحاشدة, ولا تلك القوى الجامحة...أخذوا يبتعدوا دون أن يطاردهم أحد, يتفرقوا الى كافة الشوارع, هاربين خائفين, لتتجه الدفة الى جهة الثوار, فقد لدقائاق تهدأ المواجهات, قبل أن تشتد الحرب أكثر اشتعالا.

انسحب الجنود الراجلين, لكن أخذت احد مدرعاتهم تتقدم بسرعة, تشق جموع المتظاهرين و تتحرك بينهم بعشوائية, تدهس العشرات منهم دون توقف, تذهب و تعود دون هدف محدد الا القتل, ثم تفر هاربة دون ان يستطيع أحد على تتبعها...خلفت السيارة ورائها عشرات القتلى و الجرحى, محاولة تفريق المتظاهرين قبل أن تهرب, و قبل يستمر العنف ضد الثوار..أصوات لطلقات نارية لرصاص مطاطي, انطلقت من اسلحة يحملها قليل من من كانوا يأمروا الجنود في بداية المظاهرات, يقفون بعيدا بعد ان تركوهم جنودهم, يضربون الطلقات و يوجهوها الى صدور المسالمين العزل, فتصيبهم اصابات بالغة, من كسور و كدمات خطرة, ثم يفروا, تاركين المصابين تغطيهم دمائهم, و يتجمع حولهم الكثير لأسعافهم و انقاذهم, لكن أدواتهم الأولية لا تسعف مصابين في تلك المرحلة الخطرة...لم يهدأ المشهد الدموى بعد, فمع دخول الغروب, بدأت تشق صمت السماء اصوات لطلقات اشد قوة  من الرصاص المطاطي...طلقات و ذخيرة حية, لا يعلم أحد مصدرها, أصوات تأتي من بعيد يقع بعد حدوثه بلحظات كثير من القتلى و المصابين...المشهد مرعب, لا يعلم أحد من أين توجه اليه الضربات, ولا يستطيع أحد أن يرى من يوجه اليهم تلك الرصاصت, ولا أحد يعلم لماذا من أطلق عليهم النيران أطلقها, لماذا يحاول قتلهم...ماذا يحمي, و عن ماذا يدافع.

أحمد فرغلي
2/5/2011

Popular posts from this blog

الدور العشرين

من الزهور للجذور 4: بميعاد مسبق

على الجانب الآخر