الحيوان

لم يكن كابتن سيد السبع، اقدم أعضاء السيرك، حاضرا في الإجتماع الطارىء الذي قام به المدير. ورغم أن الكابتن هو مدرب الأسد غضنفر الذي تسبب مرضه المفاجيء بأزمة حقيقية لكل العاملين بالسيرك، إلا إنه كان آخر العالمين بأمر المدير لحل الأزمة. مرض غضنفر المفاجىء حل عليه قبل يوم واحد من بدىء العرض الأهم للسيرك في آخر عدد من السنوات. فبعد أن فقد السيرك المتنقل رونقه وسمعته، سواء بسبب تكرار العروض القليلة أصلا، أو بسبب استمرار نقص العارضين على مر الأيام واعتذارهم لأي سبب كان، خاصة لكبر السن، أو بدون أسباب أصلا لمجرد أنه صار موضة اقترنت بزمن فات؛ جائت فرصة محاولة احيائه من جديد بعد أن استقبل المدير هاتفا يعلمه أن قناة تليفزيونية مغمورة تود أن تنتج فيلما وثائقيا عن السيرك وتاريخه الذي لم يعش منه إلا غضنفر وكابتن سيد. بالإضافة إلى عدد قليل من عارضي الأكروبات الصغيرين والمتناوبين بخبراتهم القليلة على السيرك وأهله. وكان مهم جدا أن تصور القناة أحد العروض لا سيما وأن غضنفر سيكون موجودا وهو الأسد الذي انتزع بزئيره ساعات من التصفيق أيام العز. لم يود المدير تأجيل التصوير ولا العرض، خشى ألا تأتي ال

الفائز الوحيد

1-      قبض بيمناه على مقبض سلاحه، و باليسرى سحب اجزائه فانطلقت من فتحتة جانبيه عبوة فارغة لرصاصة انطلقت و استقرت في رأس عدوه بعد ان اخترقت جبهته و فجرت عظامها تفجيرا. يزداد انتشاء و و يبتسم للحظة كلما اصابت طلقاته هدفها، قبل ان يعاود وجهه الاقتضاب و ارتسام ملامح التركيز ليبحث عن ضحية جديدة. و ان كانت اعينه لا ترى الا مصائر الطلقات، الا ان آذانه كانت بعيدة شيئا ما عن المعركة، تسمع التصفيق و الصيحات التي تعلوا كلما اوقع جثة جديدة.. التشجيع و الحث على عدم التوقف او حتى الابطاء، فهو يقوم بدور بطولي قومي في مواجهة اعتى اعداء الدولة.. توصيات قادته و أوامرهم بالتنكيل بكل من يشتبه به دون رحمة أو شفقة.. أخوه الأكبر وهو يقبض على كتفه و يرسل اليه نظارات حاسمة ملقيا على مسامعه بصوته الاجش عبارات حماسية تقذف في صدره ما يكفي من الطاقة، و ان لم يخفي ذلك الصوت و تلك النظرات بعض من القلق.. امه و هي تدعو له و توصيه على نفسه و تنتزع منه الأيمان و الوعود و تقسمه بالله ان يعود سالما ان حدث و حارب هؤلاء من حاربوهم و هددوا  استقرار وطنهم، و بقلبها الأمومي الطفولي احيانا توصيه ان يبتعد قدر الامكان عن أي مكان قد يهدد حياته و سلامته و يكتفي بالمشاركة عن بعد!  قبل ان تطبع على رأسه قبلة تتبعها ب"لا إله إلا الله".
 
2-      بخطى سريعة و ظهر منحني و رأس تقترب من ان تلامس لحيتها الأرض و تطأ شعرها الخفيف قدمه، اتجه مجرجرا سلاحه الآلي سريع الطلقات نحو عمود عريض اتخذه كساتر و استند بظهره عليه، بحركة سريعة استدار و صوبه نحو اصحاب الدروع السوداء و المركبات المدرعة العملاقة.. رشهم بطلقات لا حصر لها و لكن لم يوقع منهم الا قليل. بروح المتحمس و بأداء الهاوي، كانت تنطلق طلقاته الطائشة بحرية و تبحث هي عن هدف لم يوجهها هو نحوه.. ساق، ذراع، كف، صدر، رأس.. أخريات اخترن السماء و أخريات الى جدران المباني المحيطة. كان جسده النحيل الغير مستقر يهتز بسرعة اهتزاز سلاحه، لكن عقله استمسك و تشبث بعدد من الصور بعثت فيه من الحماس ما منعه عن التفكر في سواها.. التكبير و الحمد كلما اصاب او اسقط احدهم.. اصوات القادة و الكبار الرنانة في المكبرات و هي تحثه على الجهاد و وهب نفسه لله و الاستشهاد في سبيله، فهو البطل المختار الذي يواجه اقوى اعداء الأمة.. صور قديمة لما كان طفلا، استرجعتها ذاكرته لزائرين في الفجر يقتحون منزله لتأخذ اياديهم من تأخذ، و لا يعود المفقود الا بعد أسابيع و شهور و قد تغيرت احواله و تبدلت هيأته.. و مشاهد أخرى من تعذيب و قتل لدولة بلوسية قد ظنها ولّت و يستميت حتى لا تراها أعينه و هي تعود للحياة.. امه وهي لا تكف عن الدعاء له و ترجوه ان يحافظ على حياته و ان يعود لاحضانها سليما منتصرا باذن الله تعالى على من حاربهم و حارب دينهم، (و لكن ارجوك الا تمسك سلاحا ولا تشتبك، اكتف بالمساندة و المساعدة، و الا قلبي و ربي غضبانين عليك ليوم الدين).
 
1-      كانت رؤية طلقة واحدة مواجهة تشق الهواء نحو فرقته كفيلة بأن تشعره بفوران دمه و اهتزاز قلبه اثر تسارع ضرباته الغاضبة، و من ثم ينتقل العنف للمستوى الأعلى. و يا ويلهم مطلقي هذه الطلقات لو اسقطت رصاصاتهم احدا، فكانت الأوامر مجهزة مسبقا بالقضاء عليهم و ابداتهم عن بكرة ابيهم و عدم ترك أحدا منهم سواء مسلح أو اعزل، رجل أو امرأة، طفل أو شيخ، بشرط لفظ اول جندي لنفسه الأخير، و أخيرا حدث.. بعد ان كانت الخطة (A) تعتمد على قتل البعض و احتجاز الآخر. تقدمت المدرعات في مشهد مهيب وسط سحب دخان و السنة نيران  ترقص رقصتها الأخيرة قبل ان تدهس و تدفن في بقعتها السوداء، سحبت تحت عجلاتها كل ما هو أخضر و يابس، ممهدة الطريق لأقدامه  البطيئة الحريصه، والحاملة لصدره الأسود العريض الغاضب المحتضن لسلاحه الذي لم يتوقف عن القذف.
 
2-      لم يتوقف لسانه عن ترديد الشهادتين و التكبير و هو يسقط هذا جريحا و هذا قتيلا، كافرا في عينيه، شهيدا في أعين أهله. و لم يهتز أو ينسحب عند رؤيته لمركباتهم العملاقة تتقدم و في اثرها عشرات الجنود و أدواتهم و تجهيزاتهم و تسليحهم الحديث في مواجهة قاذفه الآلى البدائي بالنسبة لهم. فرغت خزينته، فاستند بظهره مجددا على العمود لتبيدلها و اتجهت اعينه تجاه عشيرته، فاتسعت عيناه اذ لم يرى منهم باق الا قليل يقذف المدرعة و حاشيتها بحجارة بائسة. عشرات الجثث غطت الأرض و روت شقوق الأسفلت بدمائها، جريح غارق في دمه يحاول ان يسحب جسده لمكان آمن، يأتي من يساعده من الأصحاء فتأتيه رصاصة غادرة لتسقطه بجانبه، سيدات و أطفال لا يكفن عن الصراخ و رجال لا يكفون عن المقاومة و الدعاء، صبية و شباب يهرولون حاملين جرحي، اطباء بمعدات لا تلبي حاجة الحالة يستميتون في انقاذ من يمكن انقاذه، و آخرون يسحبون الجثث لمكان بعيد عن ساحة الحرب، ولا توجد بقعة بعيدة كانت او قريبة لم تطأها اقدام المعركة. مجزرة بكل المقاييس اخذت بذهنه و جعلته يتسائل.. هل من الشهامة ان تقتل أعزل و طفل و امرأة؟ هل يعقل ان تمنع الدواء عن الجريح؟  لو كانت علة القتل التسليح فأنا حامل لسلاحي و هم عزل و ابرياء، لم يحركهم الا غيرتهم على وطنهم و دينهم، هل تلجأ لأبادتهم بذنبي و ان كان ذنب؟!.. هل تلجأ للظلم لتطبيق العدل يا قاتل خيرة شباب البلد بحجة الحفاظ على سيادة الدولة؟!.. عن اي دولة تتحدث وانت كافر، قاتل، سفاح، عن أي عدل تتحدث و عن أي ارهاب؟.. انت لست في العدل من شئ و انت تلجأ لأبادة من هم مختلفون معك بحجة انهم مسلحون، أنا مسلح و هم عزل و لن اتوان عن دفعك عنهم بسلاحي.. ما انتم الا مرض اصابنا لأعوام و حان وقت استأصالكم عن جسدنا الى الأبد. ثوان و استفاق محاولا تلبية حاجة بندقيته الفارغة، و هو يسمع أصوات الرصاص تقترب و يري عروضها الجوية في الهواء.. قبل ان ينتبه لصوت وقوف المدرعة، فأيقن انها استقرت في الجهة المقابلة لساتره الدائري.. تحرك مسرعا، ملتفا، و لكن قبل ان يصوب سلاحه فوجئ بقدم ذات حذاء عسكري تركله بعيدا لتترك يده عارية. شل جسده، و لم تلتفت او تتلامس رموش عينيه المحدقة في فوهة ذاك الذي موجه لرأسه. قبل ان يغلقهما و يعتصرهما كاتما انفاسه منتظرا الشهادة.
 
1-      جرده من سلاحه، و أصبح امامه في جلبابه القصير هزيلا مصفرا الوجه ينتظر الموت و يتمناه.. بسرعة نظر عن يمينه فرأي اعدائه يسبحون في دمائهم يجرون ورائهم هزيمتهم لا تأخذه شفقة بأي منهم، و عن يساره رفقاؤه منهم الجريح و منهم القتيل و ان كانت الاعداد لا تقارن، فرأس الجندي البطل بألف من هؤلاء المخربين.. و منهم الثابت المتقدم لا يتوقف عن الانتقام. اعاد النظر اليه و تسائل في نفسه: هل انتم دعاة اسلام يا محتكريه على انفسكم و جماعتكم؟.. هل من دينكم ان تكفروا و تبيحوا دم كل من عارضكم و خرج ضد حكمكم الفاشل؟.. أنسيتم اقصائم  للجميع الا مريديكم؟.. هل من دينكم الترهيب و التهديد بحجة الحفاظ على الشرعية؟.. عن اي شرعية تتحدثون انتم اول من انتهكها؟.. أمن اسلامكم القتل و امطار بيوت الابرياء بالرصاص؟!.. اذهبوا بلا رجعة، انتم آفة اصابتنا بالشلل لمدة عام كامل، و حان وقت القضاء عليكم و على أعوانكم، فلتذهبوا بلا رجعة. اشتد تركيزه المدعم بغضبه و بلغ أقصاه، توقفت آذانه عن السمع، ثبتت الصورة أمامه فلم تنحرف أعينه ولا جبهته المتعرقة عن هدفه المستسلم و كأنه في حلبة ملاكمة و خصمه يتمايل ينتظر اللكمة القاضية. ضغط على زناد سلاحه الذي انفجر في رأس الضحية برصاصة اخترقت عظام جمجمته و فتتها، فتطايرت اشلائها و شظاياها على درعه الأسود و على العمود الرخامي الذي فشل هذه المرة في الدفع عن صديقه.
 
3-  كان يراقب الاحداث من شرفته متجاهلا صراخ امه و أوامرها و توسلاتها، بعد ان فشل في اقناعها بأن خوفها بدون ادنى داع. حاول ان يخرج بجزئ من رأسه قبل ان يمد يده الممسكة بهاتفه المحمول لتسجيل ما يحدث و ان كان لا يفهم ما الذي يدور. من البادئ من الأظلم؟.. من المخطئ و من على صواب؟.. من ظالم و من مظلوم؟!.. و من يستحق القتل؟.. و هل توجد من الاساس نفس تستحق ان تقتل و يسلب منها حق الحياة؟!.. فقط انتابه شعور كئيب و حزن بالغ من مشهد عجز عن استيعابه.. ليس هذا شارعه المعروف عنه الهدوء و الرقي، ليست هذه أشجراه الخضراء الكثيفة بعد ان اصبحت عجوز عارية، ليست هذه سيارة جاره المحترقة المتفحمة، ليست هذه شرفة جارته و قد اخترقتها كثير من الرصاصات و خلفت ورائها الثقوب و الشقوق، ليس هذا شعور الأمان، الآن و لأول مرة أحس بالخوف و تفهم احساس امه الذي لم ير له مبرر. أحس بالخوف على والديه و أشقائه، بالخوف من الموت، بالخوف على مستقبل لا يعلم ان كان سيعيشه أم لا،  بالحزن على مقتول و على قاتل ماتت بداخله الأنسانية، بالحسرة صدور التى اوغرتها الكراهية و ذهب القبول و حل محله الحقد. حاول تصوير الوضع و نقله كاملا حتى و ان كان جاهلا بالاحداث او ترتيبها، كان يبحث عن الحقيقة دون اللجوء الى نفاق اعلام الدولة وكذب اعلام الدويلة.. حاول بقدر الامكان ايضاح المشهد كاملا الا ان الكاميرا الصغيرة لم تكن كافية لتغطية الساحة الدموية  الواسعة.. فركز على حوادث صغيرة بين كر و فر و تقدم و انسحاب.. الى ان التقطت عدسته تلك الصورة العجيبة.. جندي ضخم البنية، عريض الصدر، أسمر البشرة مصوبا سلاحه نحو رأس شاب ملتحى أعزل ماكث على ركبتيه مرتعش في جلبابه الأبيض متوجها نحو عمود رخامي ضخم بدا و كأنه كان يحتمي به. أثارت الصورة غضبه، فماذا يفعل هذا المسلح بهذا الأعزل؟.. ماذا ينتظر و لماذا يتلذذ برؤيته يرتعش و ينتظر الموت؟؟!.. استشاط غضبه فصاح دون ارادته (ماذا يفعل هذا الحيوان؟.. إما ان يقتله، يقبض عليه، او يتركه يذهب، ما الممتع في رؤيته ضعيف يترنح على خيط رفيع بين الموت و حياه) الا ان صوته كان ضعيفا غير مسموع ولا حتي لأذنيه وسط فرقعات الطلقات و الفنابل، الطلقات التي طاشت احداها فكادت ان تصيبه في شرفته العالية، الا انها -و كأنها انحرفت عن مسارها-  شقت الجدار الخشبي للشرفة مبتعدة عن رأسه، فاستقرت في حائط الغرفة المقابل.. استغرق من الوقت دقيقة او اكثر كي يستجمع قواه و انفاسه و يفيق من الصدمة.. تسحب معتدلا بعد ان كان ملقى على ظهره، بحث بسرعة عن هاتفه الذي اختفى اثر السقطة و لكن دون جدوى،  فتقدم برأسه و اشرأب عنقه ببطئ شديد نحو الشرفة مجددا بعد أن احكم اغلاقها من الداخل، و ارسل نظراتها من الفتحة التي خلفتها الرصاصة باحثا عن مصير ذلك الشاب المسكين، ليجده بلا رأس محاط ببركة دمه الواسعة، التى اخذت تتسع و تمتد الى ان اختلطت بدماء جندي اسمر ملقى على وجهه، كان منذ ثوان يوجهه سلاحه صوب رأس الضحية قبل ان يسقط بجانبها.. ليدرك وسط انصاف تلك الصور المهشمة و الآراء المشتتة و الحقائق التائهة، ان الحقيقة الوحيدة التي استشفها و رآها كاملة من خلال فتحتة شرفته.. هي ان الموت قريب يحيط بالجميع، هو الفائز الحتمي الوحيد لهذه المعركة.

أحمد فرغلي 
13-8-2013

Popular posts from this blog

الدور العشرين

من الزهور للجذور 4: بميعاد مسبق

على الجانب الآخر